"فئران ورجال" اتّساع الطموح وشحة الوسيلة

رواية "فئران ورجال" للكاتب الأميركي جون شتاينبك صدرت عام 1937 أعقاب ما يسمى بالكساد الكبير، حيث تعقّد الوضع الاقتصادي.
جون شتاينبك من الأدباء الإشكاليين، فرغم أنّه ينحدر من عائلة ثرية، لكنه اشتغل في كثير من أعمال البناء، وشهد الفروقات الطبقية بين فئات المجتمع، التي ظهرت في رواياته
هذه الرواية أصبحت منذ أربعينيات القرن الماضي مادة ثرية للسينما والمسرح

صدرت رواية "فئران ورجال" للكاتب الأميركي جون شتاينبك، عام 1937 أعقاب ما يسمى بالكساد الكبير، حيث تعقّد الوضع الاقتصادي، وأصبح الحصول على العمل ولقمة العيش مسألة في غاية الصعوبة، وخاصةً في ثلاثينيات القرن الماضي.
في طرق خاوية ومزدانة بالشجر، وفي مكان شبه مهجور، يظهر رجلان متعبان يسيران بتثاقل بين غابات وأدغال، أحدهما يُدعى جورج، يبدو على ملامحه وسلوكه مسحةٌ من الذكاء وقوة الشخصية، والآخر طويل القامة، ضخم الجثة، اسمه ليني، ويظهر على عكس رفيقه جورج، فهو غير متزن من الناحية العقلية، كطفل كبير السن، ويبدو ذلك من خلال الحوار بينه وبين جورج، الذي يلقّنه كيفية التصرف في حالة وصولهما إلى المزرعة الجديدة للعمل فيها. 
سائق الحافلة أنزلهما متعمدا - أو عن طريق الخطأ - في مكان بعيد عن المزرعة ، مما جعلهما يتأخران عن موعد الوصول إلى العمل الجديد، ويضطران إلى المبيت في العراء، ونكتشف مدى علاقتهما ببعضهما البعض، فجورج يعتبر نفسه وصيّا على صديقه ليني، ولا يستغني عنه أبدا، فهو يحبه ويردد اسمه دائما، ويمتثل لأوامره ونواهيه بطاعة عمياء. لكنّ إعاقته العقلية جعلته يعيش بذهنية طفل صغير، لا يفرّق بين القسوة واللين، بحكم قوته الجسدية وضعفه العقلي، لذلك حينما مسك ثوب فتاة في أثناء عمله في المزرعة السابقة، فاعتقدت بأنه يريد اغتصابها بالقوة، مما جعل أصحاب المزرعة، يبحثون عنه لقتله، ولكنّ جورج أنقذه بعد أن هربا معا، وهو الوحيد الذي يُدرك حقيقة شخصية ليني الطفولية والبريئة، لذلك وجد جورج نفسه مجبرا على عدم ترك ليني وحيدا في هذا العالم المشحون بالقسوة، فكان يكرر تعليماته أن لا يفعل أي شيء إلا بعد استشارته. 

المخرج استطاع أن يمنحنا صورة بصرية عن القوانين التي تحرم على السود الاختلاط بالبيض تحت سقف واحد، وكيف أن براءة ليني الطفولية قد تجاوزت هذا الفصل العنصري، حينما دخل غرفة الزنجي، وظل يتحدث معه عن تربية الأرانب وعن حبه لنعومة ملمس الجرو الصغير

كان جورج يحلم بأن يمتلك مزرعة في يوم ما، ويتحدث عن هذا الحلم أمام ليني كي يملأ خياله بالأمل، في أن يجمعا بعض المال في العمل الجديد. ويلتقيان بعدد من أفراد المزرعة الجديدة، ومنهم كاندي الحارس العجوز والمقطوع اليد، وهو يعمل في شؤون الحراسة وتدبير بعض الأشغال المختلفة، وهناك الزنجي الأحدب كارلسون الذي يقوم بتربية الخيول في الإسطبل، إضافة إلى كيرلي، وهو ابن صاحب المزرعة الذي يتصرف بطيش، ويشعر بعقدة الدونية، لذلك فهو يلجأ دائما إلى مخاصمة الآخرين مستخدما قبضته، باعتباره ملاكم شبه محترف، وقد تزوج من فتاة جميلة ولعوب لا تميل إليه، لذا فهي تمارس لعبة الإغواء لمن يعجبها، وهذا ما يثير غضب كيرلي. 
كان جورج يخشى من رعونة وعفوية ليني، والتي قد تؤدي إلى طردهما من العمل مرة أخرى، وحينما قابلا صاحب المزرعة (المعلم) كان جورج يجيب عن الأسئلة التي يوجهها صاحب المزرعة إلى ليني، وحينما استنكر المعلم ذلك، برر جورج بأن ليني ابن خاله، وإنه تعرّض لرفسةٍ من بغل في جمجمته حينما كان صبيا، لذلك لا يُحسن الإجابة، ثم استطرد كي يقنع المعلم بقبولهما: إنه يستطيع أن يقوم بأصعب الأعمال وينجزها على أحسن وجه، وقد قبلهما المعلم على مضض، وحينما حصلا على غرفة نومهما، التفت ليني إلى جورج قائلا:
 لماذا كذبت يا جورج، فانا لم أتعرض لرفسة بغل على جمجمتي، ولم أكن ابن خالك!
 وهذه الملاحظة الطريفة تنمّ على صدق سريرة ليني الذي يتصرف وفق عقلية غير ملوّثة بالنفاق الاجتماعي، فهو طفلٌ في هيئة رجل ضخم. 
كان جورج يغذي عقل ليني بالأمل والأخيلة عن شراء مزرعة، وهذا ما جعل ليني يردد الحلم ويكرره في أحاديثه المتقطعة وغير المفهومة، هذا الحلم الذي يعني له اللعب مع الأرانب! وفي إحدى المرات كان جورج وليني منهمكين بالحديث عن مزرعة معروضة للبيع بستمائة دولار، ولكنهما لا يمتلكان هذا المبلغ، لذلك فالاستمرار بالعمل، هو الذي الذي سيوفر لهما جزءاً من هذا المبلغ الضخم بالنسبة لتلك السنوات، لذلك يبقى الحديث عن المزرعة وكأنه من هذيانات أحلام اليقظة. ورغم الهمس بين جورج وليني، فقد استمع كاندي العجوز لحديثهما، ووجد بأن هذه الفكرة ستنقذه من مصيره المجهول في حالة شيخوخته، لاسيما وإنه شهد مصير شيخوخة كلبه، والذي أجبر على التخلص منه برصاصة الرحمة. فكان كاندي يقارن نفسه على أنه سيكون فائضا عن حاجة الحياة ذات يوم، فعرض على جورج أن يساهم في هذا الحلم بتحقيق ملكية المزرعة، وسيساهم بمبلغ ثلاثمائة وخمسين دولارا، وهي كل ما استطاع أن يوفره في حياته، إضافة إلى التعويض الذي مُنح له بعد أن فقد إحدى يديه في العمل. مما جعل هذا الحلم أن يقترب من التحقيق. ولكنّ الحلم شيء والواقع شيء آخر. ومن هنا يأتي النص الشعري للشاعر الأسكتلندي روبرت بيرنز، والذي استلهم منه الكاتب جون شتاينبك مضمون روايته وعنوانها:  

novel
جورج هو القرين الذي يُكمل شخصية ليني

"أفْضَلُ خططِ الفئران والرجال غالبا ما تنحرف ولا يتحقق المرجو منها".
ففي يوم من أيام الاستراحة من العمل، كان ليني في الإسطبل، يداعب جثة الجرو الصغير الذي نفقَ نتيجة لمداعبة قبضة ليني الحديدية، حيث أزهق روح الجرو دون إرادته، وبقي خائفا من جورج أن يلومه، مكررا هذه العبارة عدة مرّات:
"سيغضب مني جورج، ولن يسمح لي بتربية الأرانب".
وفجأة دخلت إلى الإسطبل زوجة كيرلي، مستغلة انشغال الرجال ما بين اللعب والعمل، فراحت تحدثه عن عشقها للتمثيل، وضياع فرصتها بسبب رفض أمّها، كما كانت تحدثه عن عدم إعجابها بزوجها الذي فرض نفسه عليها، وهي لا تحبه لأنه أناني، ولكنّ ليني كان مشغولا عنه بالحلم بتربية الأرانب وملامسة نعومة جلدها، وحينما عرضت عليه أن يلمس نعومة شعرها الجميل من أجل إغوائه، أمسك شعرها بقبضته القوية، دون أن يقصد إيذاءها، فصرخت المرأة مذعورة،  فوضع يده على عنقه لإسكاتها، كي لا يسمعها جورج، فيلومه كعادته! ولكنّ قبضته القوية كسرت عنقها، فلفظت أنفاسها، وحينما أدرك فداحة فعله، هرب إلى المكان الذي أنزلتهما الشاحنة فيه، والذي نصحه جورج بالاختباء به إذا فعل أي خطأ، حتى يتسنى لجورج العثور عليه.    
وكان كاندي العجوز أول من اكتشف موت الضحية، فاخبر جورج، ثم تسرب الخبر إلى جميع رجال المزرعة ومنهم زوجها، فحملوا بنادقهم للبحث عنه والانتقام منه، وخاصةً زوجها كيرلي الذي أقسم أن يُذيق ليني أنواع العذاب. ولكن جورج سرق مسدسا، وذهب إلى صديقه قبل أن يصل إليه الجميع، فوجد ليني يحلم بتربية الأرانب، وقد فرح حينما رأى جورج، وصارحه بأنه كان ينتظره، وأنه لا يشك بأن جورج سيتخلى عنه ويتركه وحيدا بين الأدغال. وفي هذه اللحظة العسيرة على الوصف، طلب جورج من ليني أن يدير وجهه إلى النهر، ووجه المسدس الذي أخفاه عن صديقه إلى خلفية رأسه، حيث لا يشعر بألم الموت، وضغط على الزناد، فانطلقت رصاصة الرحمة، كي تخلّص الطفل ليني من جحيم ما ينتظره على أيدي طالبي الثأر. 
الرواية تكشف هموم الإنسان في البحث عن مصيره، فمن الصعب أن نبني بيوتا من الخيال، لأن الواقع وارتباطاته تجعلنا مقيدين بانحرافات المسار، أو كما يقول البيت الشعري العربي:
"تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ". 
لقد رمزت شخصية ليني لمدى هشاشة الإنسان وضعفه، حينما لا يدرك مواطن قوّته، وحينما يوظف هذه القوة بالإتجاه الخطأ نتيجة لجهله بعواقبها. كما تُبرز لنا الرواية  التناقض بين النعومة الرقيقة والقوة المنفلتة، والتي تمثلت بميكانكية الانجذاب في شخصية ليني للأشياء الناعمة، مثل الفأر والجرو الصغير وثوب السيدة التي اعتقدت بأنه ينوي اغتصابها ، وأخيرا نعومة شعر زوجة كيرلي. 
أمّا جورج فهو القرين الذي يُكمل شخصية ليني. 
من زاوية أخرى فقد كانت عواطف جورج لصاحبه والتي تتمثل بإنكار الذات والتضحية بمصالحه من أجله، مثل هذا الوفاء والتضحية والالتزام بعلاقات الصداقة، يكاد أن يندثر في ما يُسمّى بالعالم الجديد، حيث أصبحت الفردية والتفكير بالمصلحة الشخصية وهاجس المال الذي يكون سبيلا لتحقيق النزعة الاستهلاكية. وحتى حينما قرر جورج قتل رفيقه ليني، فكان يريد أن يخلصه من الانتقام والثار وما يرافقه من عنف. لقد استفاد من خبرة زميله في القتل الرحيم للكلب الهرم، والذي يأتي من خلال خلفية رأسه. قتل جورج صاحبه ليني ليرحمه من أن يتعرض إلى قسوة الوحوش البشرية التي لا تُدرك حقيقة إعاقته. 
جون شتاينبك من الأدباء الإشكاليين، فرغم أنّه ينحدر من عائلة ثرية، لكنه اشتغل في كثير من أعمال البناء، وشهد الفروقات الطبقية بين فئات المجتمع، التي ظهرت في رواياته. كما أنه لم يكن سعيدا في جميع زيجاته. لذلك فقد كانت المرأة في روايته لعوبا وغير ملتزمة، ولعله يعكس مشاعره الشخصية على بعض أبطاله.  
بعد عامين من صدور رواية "عن الفئران والرجال"، تم تحويلها إلى فيلم سينمائي من إخراج الأميركي لويس ميلستون، ورغم أن الشريط كان بالأسود والأبيض، ولكنه استطاع أن يظهر جوهر العمل الروائي، لأنه تمّ إخراجه في نفس الظروف التي استوحاها الكاتب، من خلال الواقع الاقتصادي البائس الذي تركه الكساد الكبير، والذي أنتج هجرة جماعية إلى ولاية كاليفورنيا للعمل في مزارعها، في شروط عمل قاسية وأجور متدنية. وتظهر لنا اللقطة الأولى من الفيلم كيفية نجاة جورج ميلتون ورفيقه ليني، من رجال مسلحين يريدون قتل الاثنين معا، بسبب اتهام ليني بمحاولة اغتصاب المرأة في المزرعة السابقة، ومن هنا يبدأ الحوار بين الاثنين، في أثناء البحث عن مكان العمل الجديد.  

ورغم أن التقنية السينمائية كانت في بداياته أي عام 1939 ولكن الفيلم الذي يحمل نفس اسم الرواية، استطاع أن يمنح الرواية جوهرها، وذلك من خلال أبطال الفيلم الذين استطاعوا أن يقدموا لنا فيلما ممتعا، ولاسيما شخصية ليني الذي أدى دوره بشكل يقرب للمشاهد الملامح الشخصية ليني المتخلف عقليا. وكذلك شخصية كاندي ولاسيما حينما أجبر على أن يتخلص من كلبه بطلقة الرحمة التي قام بها صديقه، نظرا لعجزه وهرمه. كانت لحظة مؤلمة للجميع وردود الألم التي انعكست على سلوك كاندي العجوز، وهو يمثل الشيخوخة التي لا تمتلك الضمانات للقمة العيش، فهو حيّ لا يزال قادرا على العمل، لذلك فقد أبدى استعداه لجورج نيلتون في أن يساهم بكل ملكيته من أجل شراء مزرعة. كما استطاع المخرج أن يمنحنا صورة بصرية عن القوانين التي تحرم على السود الاختلاط بالبيض تحت سقف واحد، وكيف أن براءة ليني الطفولية قد تجاوزت هذا الفصل العنصري، حينما دخل غرفة الزنجي، وظل يتحدث معه عن تربية الأرانب وعن حبه لنعومة ملمس الجرو الصغير.
لقد أصبحت هذه الرواية منذ أربعينيات القرن الماضي مادة ثرية للسينما والمسرح، فقد مُثّلت على مسارح مختلفة، وبصيغ غير متشابهة، وقد صدرت في كتيبات للرسوم المتحركة، كما أعيد انتاج فيلم آخر بنفس الاسم عام 1992، وذلك لأهمية هذا الرواية وقدرتها على ترجمة الهموم العامة التي تعيشها البشرية، وهي مسألة الإنتاج ووسائله، والتي قسمت العالم إلى معسكرين؛ المعسكر الاشتراكي الذي لا يؤمن بالملكية الجماعية لوسائل الانتاج، والمجتمع الرأسمالية الذي بُني على المنافسة وتكريس الثروة لدى البعض من خلال حرية الملكية الخاصة.