"فارغو بيرنز" قصة انهيار الحلم الأميركي

رواية "فارغو بيرنز" للروائي الأميركي كوس كوستماير تتميز بقدرتها على الإمساك بتلابيب القارئ.
الرواية مؤلفة بأسلوب جديد ومبتكر يتسم بالدقة والإيجاز والإيقاع الموسيقي 
المؤلف يستجوب نفسه ويفحص الثقافة المخدوعة في غالب الأحيان

تتميز رواية "فارغو بيرنز" للروائي الأميركي كوس كوستماير بقدرتها على الإمساك بتلابيب القارئ حيث يبدأ بمشهد شديد الحيوية والثراء يحمل كل إشكاليات بطلها "فارغو" المأزوم جراء تخبطات حياته والمجتمع الذي يحيط به، إذ نراه في هذا المشهد الصاخب يتصور نفسه وقد تحول إلى كلب، ويلقي بمحتويات شقته إلى الشارع صابا اللعنات على المارة الذين بدأوا في التجمهر، لتأتي الشرطة حيث تصحبه إلى المصحة النفسية منتزعة إياه من زوجته وطفليه. لتتوالى بعد ذلك الأحداث عبر "فارغو" حيوات واقعه المشوه بالهواجس والتشوش. 
الرواية التي ترجمها الشاعر السوري أسامة إسبر صدرت عن دار خطوط وظلال في الأردن أخيرا يمثل كاتبها الأميركي المقيم في نيويورك كوس كوستماير، واحدا من أبرز الكتاب وأنشطهم فهو روائي وشاعر ومسرحي وكاتب سيناريو. عُرضت مسرحياته في أميركا وفي بلدان أخرى وحصل على العديد من الجوائز بما فيه جائزة دائرة نقاد الدراما في لوس أنجلوس لأفضل مسرحية، كما حصل على جائزة جمعية نقاد المسرح الأميركية. وقد صدر له في مجال المسرح "حول النقود"، "تاريخ الخوف"، "المستنقع الكبير"، "حلم الحرية التام"، ومثلت هذه المسرحيات في أهم المسارح الأميركية والعالمية، كما صدر له في الشعر "سرير الزواج"، "العام الذي اختفى فيه المستقبل"، "المستنقع الغربي الكبير"، "حلم الحرية التامة"، وفي الرواية له "دين مفقود"، "سياسة اللامكان"، و"جادة الأيام المحزنة".
رأى إسبر أن الرواية مؤلفة بأسلوب جديد ومبتكر يتسم بالدقة والإيجاز والإيقاع الموسيقي واللغة المشحونة بالشعر، يروي فيها كوستماير قصة شخص يدعى فارغو بيرنز، وهو شاب أميركي في الثانية والثلاثين من عمره ينحدر من ولاية مسيبسبي ويعيش في نيويورك. يصاب بالجنون وينتهي به الأمر إلى مستشفى للأمراض العقلية حيث يظن أنه تم تحويله إلى كلب، وأن طبيبته النفسية هي فيرجينيا وولف، ثم يرتكب خطأ آخر وهو وقوعه في الحب مع عشيقة قاتل محترف.
وأضاف أنه من خلال قصته يغوص القارئ في قصة أكبر، هي قصة انهيار الحلم الأميركي، وتحويل الدين إلى أداة لقمع السود ولتبرير العبودية، قصة العنف والمخدرات وإدمان الكحول، والحروب الجنونية التي تشنها أميركا خارج حدودها. ضمن هذا الإطار، يتحرك فارغو بيرنز، باحثاً عن الخلاص أولاً من خلال الجنس والكحول والمخدرات، وفي سياق بحثه عن خلاصه يدخل في دوامة علاقة عنيفة مع امرأة متمردة على الأعراف والتقاليد، ذاق معها طعم الحرية، لكن كل من يتذوق هذا الطعم قد يكون مصيره الموت، لأنها عشيقة قاتل محترف ومهرب مخدرات.
وأشار إسبر أنه "في الرواية يستجوب المؤلف نفسه ويفحص الثقافة المخدوعة في غالب الأحيان، والعنصرية دوماً، التي تشكّل وتعرّف الولايات المتحدة اليوم. وتشير الرواية إلى الجنون الذي استحوذ على الولايات المتحدة في الستينيات، حين شنت حرباً غير عقلانية ضد شعب يعيش في الجانب البعيد من العالم ولم يشكل تهديداً لها. وعلى الصعيد الفني أسلوب الكتابة متأثر بحب المؤلف للجاز، الطبيعة التلقائية والارتجالية لموسيقى الجاز وبحثها المتواصل عن الحرية، وحبها للتعبير الشخصي، وإيمانها بالابتكار، وتمسكها بمجموعة من القواعد التي تصر على الدقة بدون إقصاء العاطفة ورغبة مزاوليها بأن يثقوا بدوافعهم ويكتشفوا ما يريدون قوله من خلال القيام بمجازفات سرعة عالية تجعل التخطيط (أو بناء الحبكة) مستحيلاً". 
وقال "إذا ما أردنا أن نشير إلى أهمية الرواية باختصار، يمكن القول إن أهميتها نابعة من مستويين، الأول هو أنها مكتوبة بأسلوب جديد ومبتكر يوظف فيه المؤلف تقنيات عديدة كأسلوب كتابة البرقية، والانتقال بين الماضي والحاضر وتعدد الأصوات السردية التي تغني السرد، أما المستوى الثاني فهو أن هذه الرواية يمكنك أن تقرأ من خلالها الثقافة الأميركية والمشكلات التي لا تزال حامية هناك كالعنصرية والنزعة العرقية البيضاء المستعلية والمزدرية للآخر، رهاب الأجانب، والدين الرسمي بالمقارنة مع الدين الشعبي الذي كان نابذاً للعنصرية، والحروب الخارجية، كحرب فيتنام".

novel
كوس كوستماير 

وأوضح إسبر أنه في حوار له مع كوس كوستماير قال له عن الرواية "أردت أن أبني شخصية فارغو بيرنز، ذلك الفقير والمرتبك والمشوش والذي لديه هدف، وأمنحه فرصة كي يشق طريقه عبر تشوش حياته الخاصة الذي يحجب الرؤية. وزرعتُ فيه أمل العثور على مستوى ما من التحرر، ودرجة ما من الاستقرار، على احتمال ما للطمأنينة، وعتبة ما من النضج. جعلته يمتلك آمالاً رفيعة وكنت مستعداً للحاق به إلى حيث يقودني. حين شرعتُ بتكوين هذه الشخصية، لم أمتلك فكرة ما الذي يمكن أن تفعله وكيف يمكن أن ينتهي بها الأمر. لم يكن القراء في ذهني. فكرت بفارغو وبنفسي وبالناس الذين عرفتهم وأحببتهم وخشيتُ منهم وصارعتهم أثناء حياتي، وفعلتُ ما بوسعي كي أمنحهم حياة ثانية، فرصة ثانية كي يسكنوا الواقع ويواجهوا أنفسهم ومشاكلهم".
مقتطف من الرواية
مقتطف ١
يعوي فارغو ويزمجر نصف عار في ثيابه الممزقة والملطخة بالدم. يبدو رجلاً يائساً يشكل خطراً على نفسه وعلى الآخرين. يدخل إلى مطبخه ويعود منه حاملاً قطع الأثاث ويقذفها إلى الشارع من ارتفاع اثني عشر طابقاً. يملأ فارغو فضاء نيويورك بالكراسي والطاولات والمصابيح والصحون وألواح التقطيع والخزانات والمراوح الكهربائية وبالمقالي والعلب البلاستيكية وبسلّة قمامة وطنجرة وعلبة بسكويت وآلة لتسخين الخبز والغلايات المزدوجة والمكانس والمماسح والدلاء المعدنية والطعام المعلب وآنية البريكس المقاومة للحرارة وسلة قمامة وإناء بسكويت وحتى باب براد، ينتزعه ويرميه من النافذة فيحلق في الجو مثل طبق دائر (فريسبي) كبير مليء بالتوابل ويهبط وسط الشارع 102 ويتبعثر ناثراً الخردل والكتشب والمايونيز والجبنة والبهارات في جميع الأمكنة. رجل يقف في الحشد الذي تجمع في الجهة المقابلة من الشارع كي يحتفي بعملية القذف الجنونية ينتشل علبة من جبنة الفلفيتة ويرفعها عالياً ويصيح:
”لا تنْسَ الخبز اللعين يا رجل.“
مقتطف ٢
كان فارغو ملطخاً بالدم، زلقاً كخنزير مذبوح. تمسكه هولي بقوة محاولة أن تهدئه. يندفع ويصارع بين ذراعيها إلى أن يسقطا أرضاً على سرير من الزجاج المحطم. ثم يتمسكان ببعضهما بيأس، كمثل آخر البحارة المتبقين في سفينة تغرق ويبكيان. يستلقيان على الأرض معاً وقتاً طويلاً، مهتزين إلى الأمام والخلف، يبكيان بصوت خافت ثم أكثر خفوتاً، إلى أن يهدآ في النهاية، أو إذا لم يهدآ، إلى أن يُستنفدا. يواصلان التمسك ببعضهما برقة، رقة غابت لوقت طويل في حياتهما الزوجية، كما لو أنهما عثرا، هنا في الحطام الذي حولهما، على نوع من الزخم، على شظية محطمة، شظية دموية، من احترامهما لبعضهما الذي كان هائلاً لكنه الآن انتهى. بدا وكأن حماس حبهما القديم قد عاد من جديد والذي تجسد في نوع العذوبة التي أبدياها لبعضهما بعضاً من قبل والتي قدحت شرارتها في البداية، ثم حافظا على صداقتهما على مر الأعوام. وهما تحت تأثير أمان هذه المشاعر يواصل كلٌّ من فارغو وهولي الاهتزاز إلى الأمام والخلف بين ذراعي بعضهما، إلى أن تقوم هولي، وهي تنظر نظرة من الذعر الوحشي، بإطلاق صرخة وتشير عبر الغرفة.