فداحة العُزلة في رواية 'أشياء'

الكاتبة التونسية - العراقية سمر سمير المزغني تتشبع روايتها بأفكار وأسئلة جديرة بالتأمل.

حينما تتأنسن الأشياء، وتصبح قادرة على الفعل، وحافلة بالمشاعر والمدركات الحسية، فنحن إزاء حالة جديدة من السرد، يعتمد على أدواتٍ تمرُّ بحياتنا، ونستخدمها بشكل يومي، ولا نعلم بأنها ترصد أفعالنا وميولنا وعواطفنا ومواطن القوة والضعف فينا، ناهيك عن أفراحنا أو ضجرنا، أو طبيعة العلاقات التي تشدنا ببعضنا أو تفرقنا، إضافة إلى تحديد موقعنا من هذا الكيان الاجتماعي الذي يحيط بنا. هذا ما طفحت به رواية "أشياء" للكاتبة التونسية/العراقية سمر سمير المزغني، الحاصلة على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبردج البريطانية، وقد سُجّلت مرتين في كتاب غينيس للأرقام القياسية، كأصغر كاتبة قصة قصيرة، ثم الكاتبة الغزيرة الإنتاج الأصغر في العالم، وذلك في عامي 2000 و2002 على التوالي. وهذه الرواية الصادرة عن دار تشكيل للنشر والتوزيع عام 2022 هي الأولى في مشوارها الإبداعي.

أستاذ التاريخ محمد الأب يتكور في عزلته، متحولا إلى مسخ بشري، يجمع الأشياء القديمة والحديثة، بغض النظر عن حاجته لها، فيغرق في طوفان من الأدوات التي تطفح بين جدران غرفته المغلقة، أدوات تتكاثر وتتناسل، حتى تتحول إلى ركام هائل من الخردة التي فقدت صلاحيتها. لقد كان الرجل تحت وطأة اضطراب الاكتناز القهري، وهو سلوك مَرَضي، يجعل المرءَ عاجزا عن التخلص من المقتنيات الفائضة عن حاجته.

ومحمد الأستاذ في نفس الجامعة التي دخلت إليها زوجته الحالية سلوى تعرفت عليه سلوى، فأحبته واعتقدت أنه الحلم الذي سيحوّل حياتها إلى فردوس، ولكنها اصطدمت بشخصيته الآلية القاحلة من العاطفة، ويقوم قلم الحبر برسم شخصيته، والتسلل إلى أعماقه، فنراه كيانا آدميا بوجوه متلوّنة ومتغيرة، تبعا للمنافع التي هي نتاج لطبيعة المناخ البيروقراطي الذي عاشته تونس في عهد دكتاتورية بن علي، بحيث أن قلم الحبر يكشف الطبيعة الوصولية لهذا الشخص الذي يؤمن بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، كي يرتقي إلى المراتب الوظيفية على حساب القيم الإنسانية النبيلة التي تخلى عنها في لهاثه المحموم في إرضاء نزعاته وميوله الأنانية، بحيث أنه حلّ بديلا عن موظف آخر، لأن الأخير سُمع على لسان حفيده الطفل، أن جده يحتفظ بصورة للرئيس الأسبق، مما حدا برجال الأمن تفتيش خزانة بيته للبحث عن الصورة المزعومة، وأصبح الجد وهو موظف مستقيم في عمله، على اللائحة السوداء، ثم يُحال إلى التقاعد، فيتلقف صاحبنا هذه الفرصة كي يتبوأ درجته الوظيفية دون أي إحساس بتأنيب الضمير. ولكنّ صعوده الوظيفي مان على حساب سعادة أسرته، بحيث أنه بمجرد سقوط النظام في تونس، يتحوّل إلى مسخ محنط، يعيش في وهم الماضي السحيق، محاطا بعبء مقتنيات رثة، تحيط به، وتجتث علاقته مع الحاضر. وكأن الكاتبة الشابة الدكتورة سمر جعلت من هذه الشخصية رمزا لعقليتنا التي تعيش الماضي فقط، دون تلمس الحاضر.

قسمت الكاتبة فصول روايتها بحسب "الأشياء" التي ذكرتها كفصول للرواية، وحيث عبرت عنها على لسان "العرافة" بقولها: "الأسرار يدفنها الأشخاص، وتنبشها الأشياء. الشيء ليس لمالكه، الشيء هو المالك"

ومن هذه الأشياء، زجاجة نبيذ، وحبوب منوّمة وهاتف ذكي، وكرة زجاجية، إضافة إلى قلم الحبر، كل هذه الأشياء قدمت لنا شخوص الرواية، من زوايا ورؤى مختلفة، فكل فصل مختلفٌ عن الذي يليه، ولكنه في الحقيقة مرتبط به.

"الكرة الزجاجية" التي تعيش تحولاتٍ ومراحلَ مختلفةٍ، فقد كانت حبيسة في صندوق مغلق، ثم انفتح الصندوق لتصبح بيد عرّافة، ثم رفيقة للطفلة إيناس، وفي النهاية تنتهي في القمامة، ولكنها تسلط سطحها الزجاجي لتصور لنا الكثير من المواقف، ولاسيما بين العرّافة وبين الناس المحبطين الذين يأتون لمعرفة مستقبلهم، وتتحول الكرة إلى أداة فاعلة في هذا المعترك الذي يغرق في غياهب مجاهيل متنوعة، ويكشف الضعف الإنساني وتعلقه بأوهام الانعتاق بطرق إعجازية، متمثلة بالتأثيرات التي تزعمها العرافة في التأثير على الطبائع والعواطف والمسارات، ولكنّ براءة الطفلة إيناس كشف زيف لعبة "السحر الأسود" وعجز الشعوذة، وتشخيص حالة الجهل الذي يحيط بالأفراد الذين يعجزون عن إنجاز رغباتهم وأهوائهم، ويريدونها تنزل عليهم كمعجزات تخترق قوانين الطبيعة. كانت أسئلة إيناس تعبر عن حجم معاناة الطفولة التي تكون ضحية لأهواء وأمزجة الكبار الذين يعيشون انكساراتهم، ويعكسونها على أطفالهم، ورغم أن العرّافة طلبت من إيناس مزيدا من المال كي تكون قادرة على إجابتها عن الأسئلة الحادة التي وجهتها لها، ولكنها في نفس الوقت تعبر عن فضح هذه الظواهر التي تنشأ عادة في المجتمعات المتخلفة، وحينما تصبح الكرة الزجاجية رفيقة لإيناس، تبوح لها بغربتها وجو العُزلة التي وصفتها كأنها مخلوقٌ خرافي، كما شكت لها عن هموم الجو الدراسي وطبيعة المناهج وقسوة المعلمين، كما تحدثت عن الفجوة العاطفية بين أفراد عائلتها. لقد جاء انتحار إيناس في الرواية معبّرا عن فكرة جفاف العواطف والوحدانية التي تلتهم الناس، وتؤدي بهم إلى الفناء، ولعل موت إيناس قد شكّل إدانة لأفراد عائلتها الذين يعيشون موتهم على صعيد الرمز، ولعلها الوحيدة التي نجت من ابتذال الواقع.

في "زجاجة نبيذ" أرادت الكاتبة أن تنقلنا إلى أجواء أسطورية حيث الطفل الذي تحوّلت دموعه إلى مناهل للماء تسقي أهل المدينة، ومن خلال النبيذ تتناول الرواية التناسب بين حالة الوعي وعدمه حيث تكون المفارقة أن تكون وسيلة اللهو شاهدة على معرفة دوافع الإنسان وأهوائه وطبيعة شخصيته والنفاذ إلى دواخله السحيقة، ثم أخذتنا في جولة عن الأسرار البشرية التي تنهمر على موائد الجُلّاس والمتسامرين. وبعد ذلك تنتقل هذه الزجاجة للحديث عن أيمن الذي أصبح ضحية للخمر، وتتحدث عن مواطن ضعفه، ففي سبيل الحصول على الخمر يضطر أن يمارس السرقة والكذب وابتزاز النساء، والوقوع في فضائح مختلفة، ومن خلال زجاجة النبيذ أطلت بنا الكاتبة على موضوع أتى خارج السياق، ولكنه ذو مضامين إنسانية فقد تناولت قوارب الهجرة، وأزمات هؤلاء البشر الهاربين من جحيم الفاقة والحروب والإحباط، ليواجهوا قدر الموت في أمواج البحر وعواصفه، وذلك من خلال زجاجة النبيذ التي تركها أحد ضحايا مغامرات الهجرة في عرض البحر وكتب فيها سطورا، لعلها تحكي للعالم قصته، وقد كان للزجاجة الفضل في تشييع هذه الضحية، لتسجل نوعا من صرخات الاحتجاج ضد قسوة الإنسان وأنانيته ومدى وحشيته، بحيث أنه ينفق المليارات على الحروب، ولكنه لا يقدم بعض المساعدات إلى شباب العالم الذين يعيشون تحت أجواء اليأس والفقر.

في فصل "الحبوب المنوّمة" تضع الرواية سلوى الأم على سرير التشخيص، ونستطيع أن نتعرف عليها من خلال إدمانها على الحبوب المنوّمة، فسلوى الشابة كانت تهوى الموسيقى سماعا وعزفا، وهي تعيش مع الكمان الذي امتلك عليها حياتها، وجعل علاقتها مع أمها وأبيها في حالة تأزم مستمرة، وحينما دخلت الجامعة أُعجِبَت بأستاذ التاريخ محمد، فاعتقدت بأنه سيقوم بتحقيق أحلامها بالسعادة، والالتصاق بالموسيقى، ولكنّ زواجها كان محبطا، فكان الرجل مشغولا بطموحاته ومباذله، مما جعلها تعيش الأمومة التي سرقتها من هواياتها، وبعد أن انجبت أيمن وعلاء، خشيت من الولادة الثالثة مما جعلها تحاول الإجهاض، ولكن الطفلة الثالثة إيناس جاءت إلى الدنيا رغما عنها. وقد بدا ذلك من خلال تأثير الحبوب المنومة، فنكتشف العلاقات المتوترة مع أمها، حيث اعترفت بأنها كانت تكره تلك الأم، ولكن في نفس الوقت كانت تتوسل إليها أن لا تتركها وحيدة، لذلك فقد كان زواجها امتدادا لعنف العزلة والاغتراب الذي تشعر به، كما كشفت الحبوب المنوّمة بأن سلوى مصابة باضطراب الوسواس القهري، من خلال وَلَعِها غير الطبيعي بالنظافة وترتيب الأمتعة. لقد وجدت سلوى في النوم وما يتخلله من أحلام بديلا لقسوة الحياة المعاشة، وما فيها من هيمنة القلق.

أما شخصية علاء فقد وضعت "الهاتف الذكي" ساردا لسيرته وراصدا لها، ومن خلال ذلك، تسلط الكاتبة أكثر من ضوء كاشف إلى هيمنة وسائل التواصل، والأجهزة الذكية على حياتنا المعاصرة، إضافة لسطوة الذكاء الاصطناعي الذي جعل الإنسان غارقا في زحمة معلومات لا نهائية، تنهمر كالمطر، وكم يحتاج الإنسان إلى قدرة تفسيرية عالية لغربلتها. وقد اختارت أن تكون اليابان مسرحا للأحداث من خلال دراسة علاء- الابن الثاني لسلوى- في هذا البلد الذي يعتبر قمةً في استخدام أفضل أنواع التقنية وهيمنة الذكاء الاصطناعي في مختلف مرافق الحياة، وكانت فرصة أن تتلمس تضاريس الواقع الياباني الذي شهد تطورا بخطوات متسارعة، من حيث الالتزام الصارم بالدقة والوقت، والأخذ بكل عوامل التطور، بحيث يتحول الإنسان الياباني إلى إنسان آلي، ولا يتخلص من عبء العمل إلا في عطلته الأسبوعية، والمقارنة بينه وبين الواقع في تونس من خلال علاء وزميلته في العمل هاروكا.

قدمت لنا سمر سمير رواية ممتعة في تقنيتها السردية المتميزة، حيث "الأشياء" هي التي تمسك خيوط اللعبة، وهي التي تروي الأحداث، ولكنّها لا تتدخل في تغيير مساراتها، فكشفت لنا عن مجموعة من الشخوص المستلبين والذين جرفتهم أهواء الحياة ومنعطفاتها دون أن يؤكدوا قدرتهم على المقاومة أو الوقوف بوجه الزمن. لقد حاولت الكاتبة أن تطرز عملها الروائي الأول بما تختزنه في ذاكرتها من تجارب الطفولة، سواء في عذابات إيناس أو قدرتها على طرح الأسئلة ذات النبرة العالية، كما تناولت هموم العمل والحياة التي تؤدي إلى انكسارات وفجوات في النسيج العائلي. واستطاعت أيضا أن تكشف ضحالة اللهاث وراء السراب.

كما تشبع عملها الروائي بأفكار وأسئلة جديرة بالتأمل، كل ذلك أتى بأسلوب فني جميل، يعتمد على رشاقة اللغة وعمق المعنى.