فنّ وصف الواقع ومحوه في 'مدينة المرايا'

مجموعة الكاتب الأزهر الزنّاد لا تستمدّ جماليّتها فقط من جدليّة الواقعيّ الفانتاستيكيّ ومن نزوعها إلى وصف الواقع ومحوه وعجائبيّة عوالم تنسجها فقط، بل تبنيها أيضا من غنائيّة الوصف ومن قدرتها على التكثيف والتركيز من رمزيّتها الشفّافة وتوليفها بين المتناقضات.

حين يقتحم القاصّ عوالم التخييل العجائبيّ دون أن يفقد الواقع حضوره، حين يعمل على صهر الأسطوريّ والحكائيّ والخرافيّ والواقعيّ في بنية قصصيّة جديدة، حين يصف الواقع ليمحوه متفنّنا في البناء والتهديم، في جعل الرؤية واضحة وفي حجبها فهو يمنح الأقصوصة قوة إيحاء بدلالات تعيد صياغة الحقيقة. لعلّ هذه السمات وهذه المزاوجة بين الفانتاستيكيّ والواقعيّ هي أهمّ ما يميّز "مدينة المرايا" للكاتب الأزهر الزنّاد (دار بوب ليبريس للنشر، تونس 2022).

هي مجموعة قصصيّة توّجت مؤخرا بجائزة الملتقى للقصّة القصيرة بالكويت (القائمة القصيرة سنة 2022).

"مدينة المرايا" عنوان يَعد باتّساع الفضاء وصفاء الرؤية وتعدّد المرايا.. نطرق باب هذه المدينة فإذا هو في صورة الغلاف الخارجي شديد العتمة والظلمة.. صورة لا تبشّر بالاتّساع ولا بإمكانيّة الرؤية، ذلك أن المرايا فيها مهشّمة مفتّتة، قد تكون شظايا لما تهدّم وتهشّم في المدينة. هل تبوح الصورة بعكس ما يبشّر به العنوان ؟ أم هو الناشر،ومن ورائه الكاتب، يرغب في التعمية والإلغاز منذ البداية فيقول بالصورة عكس ما تبوح به الأقاصيص؟

الكتاب مجموعة قصصيّة، والأقصوصة كما يقرّ عديد الدارسين "فنّ مراوغ" لا يمكن محاصرته نظريّا (أحمد السماوي : تفلّت الأقصوصة، 2018) بل هي "فنّ القلق"، قلق القارئ إزاء الغموض فيها. غير أن هذا التعسّر لن يثنينا عن ولوج "مدينة المرايا " بل لعلّه يغرينا ويحفّزنا، ذلك أن هذا القلق هو أيضا قرين المتعة في فكّ شفرة النص.

تنفتح أبواب المدينة أو المجموعة القصصيّة على اثنتي عشرة أقصوصة تتلوّن بين الواقعيّ والعجائبيّ والرمزي والفانتاستيكي.. ولعلّ المقابلة بين الواقعيّ والفانتاستيكيّ تشكل السمة الأساسيّة للأقاصيص وتعتبر من أهمّ مقوّمات أدبيّتها.

يرى تياري أوزوالد أن "الأقصوصة هي الحقل المواتي أكثر من غيره للفانتاستيكي، في حين لا تكون الرواية كذلك إلا بصفة عرضيّة" (تياري أوزوالد، الأقصوصة،ترجمة محمد آيت ميهوب،المركز الوطني للترجمة تونس،ط 2013،ص143) ويعرّف الفانتاستيكي بأنه "جنس خطابيّ يتولّد من التردّد الذي يحصل للقارئ عندما يفاجأ بحدث يخرق قوانين العالم "، فإذا اعتبر ذلك الخارق وهما وخيالا يكون الحدث من قبيل الغريب (و الغرائبي) وإذا اعتبر أن للواقع قوانين أخرى مجهولة تتحكّم فيه يكون القارئ في إطار العجيب (والعجائبي) ،كأن يعتبر أنّه بالإمكان ظهور الشيطان. أما التردّد بين التفسيرين فهو الذي يخلق الإيهام بالفانتاستيكي. (معجم السرديّات :مجموعة من المؤلّفين، إشراف محمد القاضي). ويعتبر هذا التردّد الذي يعيشه القارئ بين التأويلين ظاهرة لافتة في "مدينة المرايا"، حيث يبدو العجيب مهيمنا والفانتاستيكي بارزا،  ليترك وراءه أسئلة حائرة.

 ففي قصة "عينان" يواجه القارئ منذ البداية بمشهد رعب متمثّلا في صورة مارد يتحفّز للانقضاض، تتحوّل عيناه عيونا أربعة. يصف السارد جمجمة المارد،فكّيه، أسنانه، خياشيمه، قوائمه، ثم تقفز الجمجمة داخل الحلق وينفجر الغول متحوّلا إلى ملايين الأغوال "ويظل الكيان قوقعة فارغة لا شيء فيها ما عدا العظام". وفي مقابل هذا المسخ ينفتح المقطع الثاني من الأقصوصة على الواقع اليومي المألوف: رجل يبحث في المنزل عن امرأة يجدها في النهاية أمام المرآة جامدة عاجزة عن الكلام.. وإذا هي تشير فقط إلى أعلى المرآة حيث تبرز " رتيلاء صغيرة جاثمة في سكون". بين المشهدين والمقطعين تقابل وتكامل وأسئلة معلّقة.. هل تكون تلك الرتيلاء الصغيرة هي التي تحوّلت في عين المرأة ماردا بعيون أربعة وجمجمة سوداء تنبعث من غياهب العالم السفليّ لتحتلّ المكان ؟ هل هو الرعب الذي يعيشه الإنسان في عالم يعجز عن السيطرة عليه ومواجهة الكائنات فيه  بل يعجز عن فهمه؟ هل عكست المرآة ولو في ركن صغير منها هشاشة الإنسان في مدينة يسودها الرعب؟

تتكثّف مشاهد الرعب و الفانتاستيك في الأقاصيص،تبوح بما لا يبوح به الإنسان المكابر. ففي قصّة "الرأس الهارب من بدنه" يُمحى الواقع ليهيمن العجيب.. يستعيد الكاتب الأزهر الزنّاد عبر العجائبي ثنائية قديمة هي الصراع بين المادة والروح، أو جدليّة العقل والجسد، الجوهر والعرض.. ماذا يحدث لو انفصل رأس الإنسان (رمز العقل) عن البدن؟ وهل تتحدّد هويّة الإنسان استنادا إلى هذا البدن النسّاء، بليد الفهم،الذي يكتفي بتنفيذ أوامر الرأس؟ أم تتحدّد بقيمة ذاك الجزء الذي يخطّط ويتحكّم و يقود؟ أيّهما يمثل جوهر الكائن البشريّ؟ هي أسئلة الإنسان منذ القديم يعيد الكاتب طرحها ليترك القارئ مرة أخرى "على قلق" وحيرة..

ويبدو الفانتاستيكيّ أقوى حضورا في أقصوصة "الجناشرة" في صيغة أقرب إلى الحكاية العجيبة ظاهرها رحلة بين عالمي الإنس والجنّ،أو مغامرة جنيّ في عالم البشر، وباطنها سؤال فلسفيّ: هل يمكن للإنسان أن يتجاوز ثنائيّة الخير والشرّ، أو أن يقضي على الشرور الكامنة فيه والقائمة منذ الأزل؟ هي رحلة جنيّ يقرّر مغادرة عالم الجنّ ويلوذ بالأرض بحثا عن الأخيار، فإذا هو في رحلة حلول في عديد النماذج البشرية تنتهي به إلى رفضها جميعا، ليقرّر توليد سلالة جديدة هي "الجناشرة" (جمع جنشر وهو لفظ نُحت من كلمتي جنّ وبشر) ويمتطي الشعاع إلى كوكب جديد محذّرا بني البشر من الاقتراب منه حتى لا يدنّسوه كما فعلوا في الأرض.

 يعيش القارئ مع الشخصيّات في "مدينة المرايا" في عالم عجائبيّ مخترقا حدود الزمان والمكان وكل مقاييس البشر التي اعتادها فتتداخل رؤى الأحلام وقصص الرعب متجاوزة المتوقّع والمألوف. يرمي الأزهر الزنّاد بالمتلقّي في مدن عجيبة. في عوالم سحرية غريبة مكسّرا قوالب الواقعيّة الفجّة، مكسّرا مرايا الواقع، باحثا عن طرائق جديدة للترميز سواء لتمرير الانتقادات السياسية (المعلاق المقلوب) أو الاجتماعية (العطش الأخضر) أو لإثارة قضايا وجودية فلسفية (الرأس الهارب من بدنه، الجناشرة) مستلهما في أقاصيصه الروافد التراثيّة من خرافات وحكايات شعبيّة وقصص المعجزات والخوارق..

غير أن جماليّة السرد في "مدينة المرايا" لا تعود إلى ما يتخلّل الواقع فيها من العجيب فقط ولا إلى ذاك التردّد الذي يعيشه المتلقّي بين عوالم  الفانتاستيك، بل يتولّد أيضا من ضروب التقابل والتماثل يتشكّلان في ثنايا القصّ أو في اللحظة الحاسمة وهي أشدّ اللحظات دراميّة في الأقصوصة. ففي قصة "المعلاق المقلوب" يكتشف مُخبر (لا يقرأ ولا يكتب)علامة غريبة على سور قصر الحاكم هي أشبه بمعلاق مقلوب في تأويله،وهي أقرب إلى نقطة استفهام. تتجنّد لفهمها ومعرفة صاحبها فرق بحث متعدّدة يشرف عليها صاحب الشرطة والوزير.. فرقة لتحليل البصمات وأخرى للتحليل البيولوجي وثالثة للتحليل الكيمياوي ورابعة لتحليل الآثار وخامسة لتحليل الخطّ.. هذه المفارقة الصارخة بين بساطة الحدث (علامة صغيرة على جدار قصر الحاكم) وضخامة الهلع المتولّد عنه لدى الحاكم وأعوانه تبلغ أوجها عند اكتشاف "صاحب العلامة "، إذ تشي في سخرية خفيّة بهشاشة الحاكم وجزعه من الكلمة الحرّة ومن المساءلة مهما كانت بساطة السؤال (نقطة استفهام).

يتواتر هذا التقابل في بنية الأقاصيص يبني إيقاعا متوتّرا ومفارقات صارخة  بين الفرد والجماعة (الجدار)، بين الحاكم المحكوم (المعلاق المقلوب)، بين الظاهر من السلوك وما ترسّخ في الإنسان من معتقدات (أبيض وأسود) بين الحلم والواقع المفزع (حقيبة حارقة). ورغم انتماء عدد من أقاصيص المجموعة إلى ما يسمى بتيّار الواقعية فإن الكاتب يتفنّن في التجريب عبر محو الواقع وتشويشه فلا تبوح القصة بأسرارها، بل تلقي على المتلقّي عبء تفكيك الرموز وفهم الإلغاز .ذلك أن الواقعيّة أو هاجس الواقع كما يراه أوزوالد هو "البحث عن معنى ما.. وإعادة تشييد نظام ما للواقع، فما من واقعيّة إلا بقدر ما يكون العالم في الأقصوصة مشوّشا متواريا غائبا". ومع ذلك يبني الكاتب في هذا العالم المشوّش جمالية قوامها التماثل تستحيل فيها بنية الجمل والتراكيب إيقاعا شعريا يكثف إيحائية الصور والمشاهد ويعمّق الأثر في المتلقّي.

قد تتحوّل القصّة إيقاعا راقصا بالكلمات والجمل، ينسج فيها الترديد و إيقاع صيغة المثنى نغما رتيبا ثم متصاعدا ليحوّل الصورة شيئا فشيئا حقيقة ملموسة مرعبة، مثالها ما ورد في  قصّة "عينان": "عينان كبيرتان واسعتان مظلمتان جامدتان لا تتحرّكان..كتلتان من السواد الحارق،تملآن الرأس بكامله.. عينان جامدتان تجمّدان كل شيء بالنظر.. وعينان أخريان صغيرتان ضيّقتان سوداوان.. جامدتان لا تطرفان.. تتناظران.. تملآن ما تبقى من المكان.." ص 45 .

الإيقاع بأنواعه لافت في عدد من الأقاصيص منها "أبيض وأسود" و"قصاص" تغدو معه القصّة مع إيحاء الصور أقرب إلى النص الشعري أو لعلّها "القصّة  القصيدة" التي أشار إليها ادوار الخرّاط في حديثه عن الحساسيّة الجديدة.. إيقاع تجلوه بنية الترديد الصوتي إضافة إلى تماثل في بنية المقاطع القصصيّة. وهو ما نلحظه في أقصوصة "قصاص" حيث تقيم الشخوص محاكمة لمبدعها وخالقها.. وتتالى أصوات الشخوص تطالب بالقصاص في مقاطع تتماثل بداياتها (أنا يرحل.. أنا اسمي وردة.. أنا مامادو..) ويتردّد نفس المقطع في نهاياتها "يا معشر الأشخاص.. أنا أطلب القصاص".

إن الأقصوصة في "مدينة المرايا " للأزهر الزنّاد لا تستمدّ جماليّتها فقط من جدليّة الواقعيّ الفانتاستيكيّ ومن نزوعها إلى وصف الواقع ومحوه، وعجائبيّة العوالم التي تنسجها فقط، بل تبنيها أيضا من غنائيّة الوصف ومن قدرتها على التكثيف والتركيز من رمزيّتها الشفّافة وتوليفها بين المتناقضات. وإن كانت مرايا المدينة في غلاف المجموعة الخارجي مهشّمة، فإنها لم تكن كذلك في ثنايا الأقاصيص، بل كانت كاشفة لما يتخفّى من زيف، كاشفة تفاصيل منسيّة في واقعنا أو ما نحاول أن نتناساه من زيفنا وانكساراتنا وهشاشتنا وتناقضاتنا..هي أقاصيص تمتنع على القراءة السلبيّة وتدعو المتلقّي إلى فكّ شفرة الخطاب والمشاركة الإيجابيّة.. بل إنها تهبه غالبا أرضا خصبة للتأويل، وتشحن قلقه، والقصّة "فن القلق"، بكثير من المتعة والإثارة.