فن المشربيات بين الابداع الجمالي والنفعية الوظيفية

انتبه الحرفي المصري مبكرا لأهمية الخشب وسهولة العمل عليه وديمومته.

تعد الاخشاب المصدر الرئيسي والاساسي في الكثير من الصناعات الأولية التي استخدمها الانسان للحصول على اسلحته واثاثه وادواته الضرورية، وربما لعبت المصادفة دورًا فعالًا في حياته حين وجد طرق الحصول عليها من الاشجار فبدأ يتعلم قصها وإعادة تقطيعها الى اجزاء تناسب احتياجاته ليطهو عليها طعامه واستخدمها ايضًا للانارة والتدفئة. كما تعلم نحتها للحصول على ما يلزمه من ادوات للاكل واواني للشرب، وعمل على تجميع وربط فروع الاشجار لبناء منزل له يحميه من برد الشتاء وقيظ الصيف، ثم ما لبث ان اهتم بزراعتها وتابع نموها وراعي تقليمها.

ثم طور المصري القديم الكثير من الصناعات القائمة على الاخشاب وقام بصناعة التوابيت وابواب المنازل والمقابر، كما استورد انواعًا عديدة من الاخشاب من بلاد بونت وغيرها مثل خشب الارز الذي صنع منه السفن وخشب الابنوس الذي صنع منه بعض انواع من الاثاث الفاخر.

اعقب ذلك تطور الصناعات الخشبية تطورًا ملحوظًا عندما بدأت حضارة مصر القبطية فاصبحت النجارة حرفة هامة واساسية تساهم في تشييد وتجميل العديد من الكنائس ودور العبادة وانبثقت حرف اخرى ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالصناعات الخشبية مثل حرفة الحفر على الخشب وحرفة النحت على الخشب، كما زينت الكنائس بالزخارف الخشبية النباتية والهندسية الى جانب الرموز القبطية مثل الملائكة والصلبان. وبرع فنانو النجارة في مصر القبطية في صناعة المذبح - وهو المائدة التي يتم فيها الاحتفال بالقداس ويقام بجانبها الصلوات الالهية للرب - ومقاعد الكنائس وقباب الكنائس التي كانت تصنع في كثير من الاحيان من الاخشاب المميزة.

ثم جاء الفتح الاسلامي الى مصر وكان له بالغ الاثر في تقدم فن نجارة الاخشاب وظهرت العديد من فنون الخشب منها فن الخرط العربي الذي استخدم بصفة اساسية في صناعة المشربيات واصبح واحدًا من اهم سمات الحضارة العمرانية الاسلامية واستخدم ايضا في صناعة الاثاث والفواصل بين الحجرات وضلف الدواليب وكراسي المصاحف في المساجد وكذلك المنابر.

ويعرف فن الخرط العربي فن المشربيات نظرا لاستخدامه بكثرة في نوافذ الشرب الني كانت توضع بها اواني الشرب لتبريدها وقد استخدمه الفنان المصري بدقة عالية واحترافية واتقان حيث جمعت وحدات الخرط العربي بين الجمال ودقة التفاصيل مع توافقها والعقيدة الاسلامية التي اولت اهتماما خاصا لوحدات الزخارف الهندسية والنباتية بالإضافة لأنواع عديدة من الخط العربي.

شمل الحكام والامراء حرفة الخرط العربي بعناية خاصة كونها احد الحرف التي صنعت سمات النهضة العمرانية الاسلامية واستمرت حتي يومنا هذا. وقد واجهت تلك المهنة مصاعب ومشكلات خلال تطور انماطها وتطور الالات الخاصة بها وايضًا الظروف الاجتماعية والبيئية المحيطة بها، كذلك الظروف المناخية المتعلقة بخامة الخشب - من حيث انكماشها في فصل الشتاء نتيجة درجة الحرارة المنخفضة وتمددها في فصل الصيف نتيجة درجة الحرارة المرتفعة –،الا انها كانت تشكل جدوي اقتصادية هامة بالإضافة لدورها الوظيفي الحيوي لتمتعها بإمكانية الاستفادة من بواقي الاخشاب المختلفة واعادة توظيفها بشكل جمالي في صورة وحدات مجمعة دون استخدام اية مسامير في عملية التجميع.

ان ركائز الطراز المعماري الاسلامي قامت على مضامين وخصائص كان من اهمها حجب داخل المنزل ومحارمه عن اعين المتواجدين بالخارج. لذا فقد اعتمد المعماري المسلم على فن الخرط العربي - ذلك الجزء البارز عن الحائط الخاص بالمبني من الخارج - في تصميم النوافذ والمداخل الخاصة بالمنازل لاضافة قيمة جمالية للمبني توافقا مع القيمة الوظيفية.

وقد اختلف المؤرخون في اسباب تسمية فن الخرط العربي بفن المشربيات فمنهم من نسب تلك التسمية الى كلمة مشربة بمعني مكان توضع فيه اواني الشرب المصنوعة من الفخار لتبريدها ومنهم من نسبها الى كلمة مشرفة بمعنى المكان الذي تشرف منه النساء على الطريق. وينقسم فن الخرط العربي الى نوعين اساسيين هما فن الخرط البلدي، وهو فن صناعة البوابات والدرابزينات وارجل الأثاث، وفن الخرط الدقيق الزخرفي، وهو فن الخرط العربي أو فن صناعة البرامق.

والبرامق وحدات مخروطية الشكل دقيقة الصنع تجمع بطريقة التعشيق حيث ينتج عن تجميعها اشكال زخرفية هندسية او نباتية لتصبح في النهاية قطعة واحدة حسب حجم العمل المطلوب، وتتم مراحل العمل على عدة خطوات حيث يقوم المخرزاتي بخرط الاعمدة ذات الخرزات -البرامق- او العوابر ثم يقوم بتثقيبها لتصبح جاهزة لدخول الخرط الرفيع ويلي ذلك قيام فني الحشو بعمل الخرط الرفيع ويسمي "الفرخ" ويتم عمل لسان خشبي اسطواني بكل جانب من جوانب الفرخ وفي النهاية يأتي دور فني التجميع فيتم تجميع البرامق مع الفروخ دون استخدام اي مسامير عن طريق ادخال اللسان الخشبي في اماكن الثقوب الموجودة في الاعمدة او البرامق ثم يتم صنفرة وتنعيم الوحدات المجمعة.

تتنوع وحدات الخرط العربي منها الميموني والميموني المدور والميموني المسدس والميموني المائل والميموني صليب مليان والميموني صليب فارغ والميموني نصف صليب والكنيسي، وبعضًا من تلك الوحدات استخدمها الفنان المصري في العمارة القبطية ثم امتدت الى العمارة الاسلامية -كون فنان المشربيات يجيدها ويقوم بتنفيذها- واستمرت تلك الوحدات حتي يومنا هذا.

قامت مهنة الخرط العربي على العدد اليدوية مثل المنقار والشوكة والازميل والدفرة والصنفرة الخشاب والمقشطة، ثم ظهرت الماكينات التي تعمل بدوران اليد مع تبديل الارجل وهي تشبه في شكلها ماكينة الخياطة وتسمى ماكينة قوس وظلت ماكينات الحفر في تطور مستمر مرورًا بالموتور الكهربائي ووصولا الى الراوتر وماكينات قطع الليزر، وكان يتم تصنيع وسن العدد والالات اليدوية لدى الحدادين الا انه اصبح هناك الكثير من الادوات والعدد تباع حاليًا في الاسواق المحلية.

تعد الوان الخشب هي الالوان الاساسية المستخدمة في تشطيب مشغولة الخرط العربي مع استخدام الورنيش لحمايتها واعطاء الخشب اللمعان النهائي، وفي بعض الاحيان تطلي بدهان الاستر مع صبغات الخشب المصنعة من مساحيق الاكاسيد الطبيعية.

مر فن الخرط العربي بعدة تطورات عبر العصور الاسلامية الا انه ظل محافظًا على اساسياته دون تغيير او تعديل منذ العصر العثماني حتي الان، وان كان هناك بعض التعديلات التي تمت على تقنيات التنفيذ بابتكار اساليب جديدة من شأنها توفير الوقت والجهد المبذول لانتاج مشغولات الخرط العربي، وتلك الحرفة تعد من الحرف التراثية بالدرجة الاولى لذا فشأنها شأن العديد من الحرف اليدوية التراثية يتوارثها الابناء من الاباء والاجداد وتوجد عائلات مشهورة بتلك المهنة وعادة ما تحمل لقب ارابيسك وهو الاسم الشائع لفن الخرط العربي.

يمكننا القول في نهاية الامر ان العلاقة التي نشأت بين العمارة الاسلامية وفن الخرط العربي علاقة تبادلية تكاملية فقد كان للعمارة الاسلامية بالغ الاثر في تطور فن الخرط العربي كما ساهم فن الخرط العربي في إضفاء طابع خاص للعمارة الاسلامية شمل في محتواه الهدف الوظيفي والهدف الجمالي وقدم العديد من المنتجات الخشبية الابداعية.

لذا فأننا ننادي كدراسي لفنون العمارة الاسلامية الى ضرورة العمل على رصد وتوثيق الفنون التي ارتبطت بتلك النهضة الحضارية المعمارية في العصر الاسلامي وإعطاء اولوية خاصة لإنشاء المعاهد والمدارس الفنية المتخصصة لخلق اجيال تجيد فنون الحرف التراثية وان يتم ذلك تزامنًا مع رعاية فناني الحرف التراثية ودعم أنشطتهم الابداعية.