في المهرجان، يُكرم المسؤول قبل الفنان!

رواد الفنون الدرامية في المغرب يبتلعهم الإهمال وهم أحياء ولا يذكرون إلا بعد رحيلهم في محاولة لاستغلال إرثهم الفني لجلب دعم مادي أو تحقيق مكاسب إعلامية.

الرباط  - تشهد المهرجانات السينمائية المغربية في السنوات الأخيرة انحرافًا متزايدًا عن رسالتها الأساسية، كونها أصبحت منصات يفترض ان تركز على صناع الافلام وعلى الإبداع الفني وتحتفي برواده الحقيقيين مجالا لتصفية الحسابات السياسية أو تعزيز المصالح الشخصية، إذ بات من الشائع أن نرى تكريم شخصيات سياسية أو إدارية مثل وزراء سابقين، أو عمداء مدن أو ولاة جهات أو رؤساء جماعات محلية، رغم أن علاقتهم بالمجال الفني تكاد تنحصر في تقديم تراخيص أو تسهيل إجراءات إدارية، وهذه الظاهرة ترتكز  على أزمة قيم تضرب جذور المشهد الثقافي والفني في المغرب، فتهمش الأهداف النبيلة للمهرجانات وتستبدل بممارسات تقوم على التملق والولاءات.

وتقدم إدارات المهرجانات السينمائية على تكريم المسؤولين السابقين بدعوى الاعتراف بدورهم في دعم المجال الفني، لكن هذا الدعم غالبا ما يكون مجرد تيسير لإجراءات روتينية لا تعد إسهامًا حقيقيًا في تطور المجال، والمثير للأسف أن هذه التكريمات تتم في الوقت الذي يتم فيه تجاهل رواد الفن المغربي الحقيقيين الذين قدموا إبداعات خالدة وأثروا المشهد الثقافي لسنوات طويلة، فهؤلاء الفنانين الذين شكلوا الهوية السينمائية المغربية يهملون وهم أحياء، ولا يذكرون إلا بعد رحيلهم، كما تطلق أسماؤهم على دورات المهرجانات في محاولة لاستغلال إرثهم الفني لجلب دعم مادي أو تحقيق مكاسب إعلامية. 

وتظهر هذه الممارسات مدى الانفصال بين القائمين على المهرجانات والجمهور الذي يبحث عن محتوى حقيقي يكرّم القيم الإبداعية والفنية، فالجمهور المغربي الذي يتمتع بوعي فني وثقافي متزايد يدرك بسهولة أن هذه التكريمات لا تخدم سوى أجندات شخصية ولا تعبر عن تقدير حقيقي للفن، فبدلا من أن تكون المهرجانات فضاء يحتفي بالمبدعين، تتحول إلى مناسبات بروتوكولية تهدف إلى إرضاء شخصيات نافذة، وهو حقيقة سلوك يسيء إلى مصداقيتها ويفقدها مكانتها الثقافية التي يجب أن تتمتع بها.

وتمثل هذه الظاهرة إشكالية تتعلق بكيفية إدارة المجال الثقافي والفني في المغرب،  وعادة  المنطقي  هو أن تخصص الجوائز والتكريمات للفنانين الذين أسهموا في تطوير السينما المغربية ووضعها على خارطة الفن، وليس لشخصيات بعيدة كل البعد عن هذا المجال، وهذا الأمر يبرز غياب رؤية واضحة لتقدير الفن والفنانين، ويوضح الحاجة إلى تغيير جذري في معايير التكريم التي تعتمد في المهرجانات، بينما  إدارة هذه  الاخيرة مباشرة الأهداف الحقيقية لهذه التظاهرات، والتي يجب أن تركز على دعم الفنانين والمبدعين الذين يمثلون العمود الفقري للسينما المغربية، وتكريم الفنانين أثناء حياتهم يحمل قيمة معنوية كبيرة، إذ يمنحهم الاعتراف المستحق بجهودهم وإسهاماتهم، ويشعرهم بأن عملهم محل تقدير واحترام، وهذا التكريم يخدم الفنانين ويرفع من قيمة ومكانة المهرجانات باعتبارها منصات تحتفي بالابتكار والإبداع. 

وتبرز هذه الممارسات الحاجة إلى إعادة النظر في السياسات والتوجهات التي تحكم تنظيم المهرجانات السينمائية في المغرب، إذ يجب أن تكون هذه الفعاليات مناسبة لتكريم القيم الفنية الحقيقية، لا أن تستغل لخدمة مصالح شخصية أو سياسية، خاصة و أن الجمهور الذي يحضر هذه المهرجانات يطمح إلى رؤية احتفاء حقيقي بالفن، ولا يريد أن يتحول إلى شاهد على مسرحية تسعى فقط لإرضاء المصالح، بينما تظهر الوقائع أن التظاهرات السينمائية المغربية لا تزال بعيدة عن تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها، ومن الجيد  أن تعاد صياغة معايير التكريم لتكون مبنية على الإنجازات الحقيقية في المجال الفني، مع منح الأولوية للفنانين الذين أثروا في المشهد السينمائي وأسهموا في بناء هوية ثقافية وطنية قوية، فالاحتفاء بهؤلاء المبدعين أثناء حياتهم هو تعبير عن الوفاء والإخلاص لهم، كما يبرز صورة إيجابية عن المغرب كبلد يقدر مبدعيه ويحترم ثقافته  

ويتطلب هذا التغيير إرادة حقيقية من القائمين على المهرجانات،  ليتحملوا مسؤوليتهم تجاه الفن ورواده، فالوفاء للفنانين ليس بالكلمات والشعارات، وإنما بالفعل الذي يعبر عن التقدير والاحترام، ويمثل تكريم المبدعين وهم أحياء رسالة واضحة للعالم بأن المغرب يعتز بأبنائه الذين رفعوا راية الإبداع عاليا، وأن المهرجانات مناسبات احتفالية وفضاءات ثقافية تمثل الروح الحقيقية للإبداع والفن، بينما بتجاوز ظاهرة التملق وترسيخ قيم الاحتفاء بالإبداع، يمكن للمهرجانات السينمائية المغربية أن تستعيد دورها الثقافي والإنساني الحقيقي، وتصبح منصات تعبر عن روح الفن المغربي وأصالته، وليس أن تتحول إلى مناسبات لتلميع الصورة أو تحقيق مكاسب شخصية قصيرة المدى.