في زمن كورونا .. كل الاحتمالات مفتوحة على مصاريعها

إبراهيم السعافين: حتى الآن، لا شيء قادر على وقف هذه الجائحة المرعبة غير الإنسان نفسه. 
قصيدة "الكوليرا" حاكت في موسيقاها إيقاع عربات الموتى التي تنقل ضحايا الوباء
قرائح المبدعين سوف تنتج أعمالًا إبداعية يخلدها التاريخ

يذكر الناقد الأردني الكبير الدكتور إبراهيم السعافين أنّ العالم يعيش أزمات مختلفة اجتماعيّة واقتصاديّة ونفسيّة. وربّما زالت الفوارق بين النّاس في هذا الكوكب، وأصبح العالم قرية واحدة حقيقةً لا مجازًا، فقد ضرب وباء كورونا مراكز الاقتصاد الكبرى في الولايات المتّحدة والصّين وأوروبا. 
ومن الطّريف أن أكبر ضررٍ قد نزل بالعالم المتقدّم علميًّا وتكنولوجيًّا. ويكفي أن نلقي نظرةً سريعة على عدد الإصابات والوفيات في هذه البلدان لنجد أن لا شيء حتى الآن قادر على وقف هذه الجائحة المرعبة غير الإنسان نفسه بعزل نفسه عن أخيه الإنسان حتى يتمكن العلم من اكتشاف لقاح جديد يوقف انتشار هذا الفيروس الخطير. فالأخبار التي ترد من مدينة نيويورك وحدها تشير إلى حالة مأساويّة عزّ لها نظير حتى ثلاّجات الموتى لم تعد قادرة على استقبال عدد الإصابات المتزايد بسرعة مذهلة.
إنّ المرء لينظر إلى القوى الكبرى التي تتنافخ حين يُمس أحد من أفرادها، وتهدّد النّاس بالويل والثّبور، كيف تقف شبه عاجزة أمام حرب شرسة يشنّها فيروس حقير لا يكاد يُرى.
وفي هذه الأيّام لا بدّ أن تتركّز في ذهن الإنسان أفكارٌ وجوديّة تتعلّق بالموت والحياة والحريّة والعبوديّة والحبّ والكراهية والعدل والظّلم والقوّة والضعف والتكبّر والتواضع والغنى والفقر والعلم والجهل. 
هذا ما يذكره الناقد الدكتور إبراهيم السغافين، ويضيف قائلًا: أتأمّل مفهوم التقدّم والتخلّف، ويخطر ببالي، وأنا أستمع من أصدقاء مقرّبين مختصّين في علم الميكروبات، أنّ ثمّة إمكانيّة حول تدخّل العامل البشري في تطوير قدرات هذا الفيروس وازدياد شراسته؛ بمعنى أنّ هذا الفيروس قد دخل المختبرات في الدّول المتقدّمة، وأنّه قد دخل معامل الحرب البيولوجية ضمن أسلحة الدّمار الشّامل!

التكنولوجيا أنقذت الناس من العزلة وجعلت الحياة أيسر وأجمل، وقد فرض عليهم هذا الفيروس اللعين عزلةً لم يألفوها من قبل

أقف حائرًا أمام ثنائية عجيبة؛ دعوى تمجيد الإنسان، والحديث عن رفاهيته وتقدّمه وكرامته، والإعلاء من حقوق الإنسان، وتدخّل الجيوش بأسلحتها وقّواتها الضّاربة للدّفاع عنها، وتأمّل صورة هي النقيض في تكدريس أسلحة الدّمار الشّامل من قنابل ذريّة وهيدروجينية، ومن مخزون بيولوجيٍّ فتّاك أرعن للقضاء على البشريّة كلّها!
وينوقّع الدكتور السعافين أن تنتج قرائح المبدعين أعمالًا إبداعية يخلدها التاريخ حول هذا الظرف الذي نعيشه بنماذجه المأسوية العديدة ويقول: إن الجائحة التي تجتاح العالم هزّت وجدان البشرية، وقلبت معادلات كثيرة لدى النّاس، ولاسيّما الأفكار الشيطانية الجهنميّة وليدة الماديّة الرأسمالية، والواقعية الصّلدة التي تنادي بحلّ القطيع التي لا تعبأ بموت كبار السنّ، وذوي الإعاقات، والمرضى، أو تلك النظريّات التي تنادي بوضع حلٍّ سريع لزيادة السكّان ولو عن طريق الحروب والأوبئة.
 وإن لم يكن الأمر كذلك، فيكفي أن نتأمّل هذا الوباء وهو يجتاح العالم، ويقضي على الآلاف والملايين، والبشرية عاجزة عن عمل شيءٍ ناجز!
 فلنا أن نتصوّر خيالاً عبقريًّا يفيد من هذه الحالة ويقدّم أدبًا عظيمًا يستوحي هذه الجائحة بوصفها مادّةً خامًا لينطلق إلى تشكيلات روائية أو مسرحيّة أو مجموعة قصصيّة أو ملاحم شعريّة تعالج قضايا وجوديّة على غاية الأهميّة.
على أنّ الأدب العظيم قد يحتاج وقتًا أطول، حتى تختمر الأفكار العظيمة وتنضج، وربما تحتاج إلى معرفة أثر هذه الجائحة فعليًّا في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق، أو أنّها ستصبّ في مصلحة الكبار بعد حين، وتظلّ الجائحة أداة في يد عتاة الرأسمالية، وأعوانهم في كلّ مكان.
وفي هذا السياق يحضرنا الأدبٌ الذي تناول الجوائح، فهناك أدب الأويئة وهو قسمان: قسم انبنى على جوائح حقيقيّة، وقسم تخيّل هذه الجوائح ومن هذا القسم أدب الخيال العلمي.
 لقد صوّرت رواية نجيب محفوظ العظيمة "ملحمة الحرافيش" ما جرى بعد أن فتك الوباء بالنّاس، وما الجيل الأوّل الذي يمثّله الجد الأوّل "عاشور النّاجي" إلاّ نتيجة لآثار هذا الوباء.
وثمة رواية "إيبولا 76" لأمير تاج السرّ، ورواية "العمى" للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو و"الطاعون" للروائي والمسرحي ألبير كامو، و"الحب في زمن الكوليرا" للكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز، وغير ذلك من الروايات التي تقع ضمن روايات الديستوبيا. ولا ننسى قصيدة "الكوليرا" أوّل قصيدة في الشعر الحرّ للشّاعرة العراقيّة نازك الملائكة التي حاكت في موسيقاها إيقاع عربات الموتى التي تنقل ضحايا الوباء.
ويوضح الدكتور السعافين أنه على المستوى الشّخصي، تأثّر بما حدث، وما استجدّ على حياتنا من تبعات، سواءً في الانقطاع عن السّفر إلى الخارح، أو التّواصل مع الأقارب والأصدقاء أو الانقطاع عن رياضة المشي، وأصبح يجد بعض الصّعوبة في الحصول على متطلبات المعيشة.
ولكن وسائل التّواصل الاجتماعي تخفّف من الانقطاع عن هذه الأمور، أضف إلى ذلك توفير الوقت الملائم لإنجاز ما كان يصعب إنجازه في غير هذه الظّروف. وإنّ كانت كلّ الإيجابيّات التي تتحقّق للإنسان في مثل هذه الظّروف لا تساوي لحظة ألم يعيشها إنسان على ظهر هذا الكوكب. ويضيف: صحيح أنني أجد الوقت الكافي للقراءة والكتابة والتأمّل، وإنجاز بعض الأعمال التي تنتظر وقتها، والتفكير بعمق في الموقف من الأخلاق وحقوق الإنسان. ولكن الشعور بالقلق، ليس على المستوى الشخصي وحسب، بل القلق العام يجعل كل الإيجابيات ضئيلة، أمام ما تعانيه البشريّة جميعًا هذه الأيّام. 

corona
أدب الأويئة 

وإن كان من المؤسف أنني أرى أنّ التكنولوجيا هي سيفٌ ذو حدّين؛ فلا أحد ينكر ما وفّرته التكنولوجيا من وسائل كثيرة ومفيدة ورائعة من أجل خدمة الإنسان ورفاهيته، ولا أحد يكابر بالقول إنّ إنسان هذا العصر قادر على العيش بمعزل عن منتجات التكنولوجيا المختلفة، فلا أحد بوسعه أن يستغني عنها، وتزداد حاجة النّاس إليها يومًا بعد يوم، في شؤون معيشتهم وفيما يتعلق يصحتهم، لكن التكنولوجيا فوق ما تسهم في تدمير البيئة تعد بتدمير جماعي للبشريّة بما نراه من مخزون متزايد من الأسلحة النوويّة وغير النوويّة، وما تنتجه المعامل والمختبرات العسكريّة من أسلحة بيولوجيّة وجرثوميّة، وما نشهده من سيناريوهات للحروب بأسلحة الدّمار الشّامل وحروب النّجوم، وكأنّ البشريّة، وهي تصدر عن سلوك أنانيّ ماديّ، تسعى لتدمير بيوتها بأيديها.
وفي نهاية الأمر، أقول: نعم، التكنولوجيا هي التي يسّرت للنّاس أن يقيموا في بيوتهم، أن يتواصلوا مع أقاربهم وأصدقائهم، وأن يتعرّفوا أخبار العالم، وأن تقدّم لهم الكتاب الإلكتروني والمقالة الإلكترونية والكتاب الصّوتي. التكنولوجيا أنقذتهم من العزلة وجعلت الحياة أيسر وأجمل، وقد فرض عليهم هذا الفيروس اللعين عزلةً لم يألفوها من قبل.
وعن حال العالم.. وهل سيتغيّر بعد الخلاص من هذا الوباء.. وعمن سيحكم العالم بعد ذلك يقول الدكتور إبراهيم السعافين: تختلف الآراء حول ذلك؛ فثمة اجتهادات كثيرة حول طبيعة هذا التغيّر. هل سيصبح العالم أكثر إنسانيّة؟ وهل سيجمع العالم رأي واحد وموقف واحد على التّعاون من أجل إنقاذ البشريّة من الشرور والأمراض التي تتهدّدها، وهل يختفي القطب الواحد أو الاستقطاب برمّته؟
 وهل يتراجع الاقتصاد المهيمن والعملة الصّعبة الرئيسيّة؟ 
وهل تتراجع الإمبراطورية الأميركيّة بعد حرب كورونا، كما تراجعت بريطانيا بعد حرب السّويس؟
 أفكار واجتهادات كثيرة. لكنّ أخشى ما أخشاه، بعد أن يزول خطر هذا الفيروس اللّعين أن تطلّ المصالح الأنانيّة برأسها من جديد، وتنسى آلام الشّعوب، وتسعى من جديد لا حتكار كل ّ منجزات العلم والطبّ والدواء والتكنولوجيا لصالحها.
 على أنّ كل الاحتمالات تظلّ مفتوحة على مصاريعها.