قاعات الندوات تشكو الخواء ومختصون يتهمون السوشيال ميديا

يسري العزب يرجع الظاهرة إلى تغيرات طرأت على حياة المصريين، مما اضطرهم إلى إعادة  ترتيب أولوياتهم، فحلت الثقافة في ذيل اهتماماتهم.
ماهر عبدالمحسن يرى أن ظاهرة انصراف الجمهور عن حضور الندوات مؤشرا خطر لتردي الحالة الثقافية
عتيبة: على منظمي الندوات حسن اختيار الأعمال والكتاب والنقاد المشاركين وعمل ما يستطيعون من دعاية قدر جهدهم
حسين عبدالرحيم يحمل المسئولية كاملة لوسائل السوشيال  ميديا

فيما مضى كانت الأوساط الثقافية تتألق بالعديد من الصالونات والندوات الأدبية، وكان جمهور القراء يتسارعون إليها للقاء كتابهم المفضلين والاستماع إلى مداخلات النقاد عن الكتب التي تناقشها الندوات، فتغص بهم القاعات، لكن اليوم ورغم سهولة الاتصال التي تتيح الإعلان عن الندوات رأينا الجمهور فاقدا لحماس الحضور، فباتت القاعات خاوية، فما الذي حدث؟
الكاتب المصري منير عتيبة - وهو المشرف على مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية - يقول: المتابع للندوات الأدبية خلال عقود يلاحظ أولا أن هذه الندوات متنوعة الأغراض. منها ما هو مهتم بالشعر فقط أو بالسرد فقط أو بهما معا. ومتعددة الأشكال أيضا. بعضها يعتمد شكل المنصة والجمهور بدرجات متفاوتة لمدى مشاركة هذا الجمهور. وبعضها يأخذ شكل المائدة المستديرة. جمهور هذه الندوات قليل العدد عادة، ولا يكون العدد كبيرا إلا في حالات محددة لها أسباب واضحة كأن يكون الضيف مشهورا جدا أو له عدد كبير من الأصدقاء حرص على دعوتهم أو أن يضاف لأنشطة الندوة الأساسية أنشطة أخرى كالموسيقي والغناء أو أن يشارك بعض الجمهور بقراءة أعمالهم القصصية أو الشعرية. لكن الندوة التي تحتفظ بمجال تخصصها يكون جمهورها محدودا عادة. ومعظم الندوات لها رواد دائمون يحضرونها بانتظام إضافة إلى بعض من يحضرون من وقت لآخر لأسباب مختلفة، ولا أتهم السوشيال ميديا في هذه الحالة لأن من يحضرون هذه الندوات بعضهم أنشط ممن لا يحضرون على مواقع التواصل المختلفة.
وفي رأي عتيبة أنه على منظمي الندوات حسن اختيار الأعمال والكتاب والنقاد المشاركين وعمل ما يستطيعون من دعاية قدر جهدهم. ثم لا يشغلون بالهم بالعدد والجمهور. فهذه ندوات نخبة متخصصة. كانت وستظل كذلك. ومحاولات جذب جمهور بالخروج عن مجال الندوة الأساسي لا يقدم قيمة معرفية حقيقية وإن جعل صور الندوة أكثر ازدحاما.
في حين يرى د. ماهر عبدالمحسن أستاذ علم الجمال بجامعة القاهرة أن ظاهرة انصراف الجمهور عن حضور الندوات مؤشرا خطر لتردي الحالة الثقافية، خاصة في ظل إقبال نفس الجمهور على فعاليات أخرى مثل مباريات كرة القدم، وما عرف بأغانى المهرجانات، ويرجع ذلك لأسباب عديدة، نفسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، يأتى على رأسها مواقع التواصل الاجتماعى، كمنافس قوى للندوات، وهذه المنافسة غير متكافئة، فهى أكثر سهولة ومباشرة، وأسرع في تلبية احتياجات الجمهور الراغب في التعاطى مع مصادر الفنون والآداب. حيث يمكنك تحقيق نفس الأهداف الثقافية والمعرفية، وأنت جالس في بيتك، من خلال الموبايل، ودون حاجة لتخصيص وقت أو بذل جهد أو إنفاق مال من أجل الانتقال إلى مقار الندوات، التى قد تكون في أماكن بعيدة أو في قلب زحام وسط البلد.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن القائمين على هذه الندوات هم في الغالب ممن ينتمون عمرياً، إلى الأجيال الأقدم، وهو ما ينعكس على اختيار الموضوعات المزمع مناقشتها، وأسماء الضيوف الذين هم، في الغالب، ممن ينتسبون لنفس الأجيال القديمة، ولما كان الشباب هم الشريحة الأقدر على الحضور، فقد كانت النتيجة  الطبيعية خواء هذه   الندوات من الجمهور، عدا المثقفين أنفسهم القائمين على هذه الندوات، تنظيماً ومشاركةً، مما أدى إلى خلق فجوة بين المثقفين والجمهور، أضحت  الندوات، بسببها، نوعاً من المونولوج الداخلي أو المناجاة الخاصة بين المبدعين وأنفسهم، ودونما أي تماس مع العالم الخارجى.
ويقول الشاعر والروائي أحمد فضل شبلول: مواقع التواصل الاجتماعي وعلى الرغم من وجودها بقوة في محيطنا الاجتماعي والثقافي في السنوات الأخيرة، إلا أنها لم تستطع أن تعوض فكرة الصالونات أو الندوات الأدبية والثقافية التي يلتقي فيها الأدباء والمثقفون وجها لوجه. فقد ثبت أنها لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور الإنساني الحميم، على الرغم من أنها تمهد له، فعند حضوري أو مشاركتي في بعض الندوات أجد بعض أصدقاء الفيس بوك الذي لم ألتق بهم من قبل، يحضرون ويأتون للمصافحة ويذكرون أنهم أصدقاء لي على الفيس وسعيدون أننا نلتقي وجها لوجه، وأبادلهم نفس الشعور.

ويضيف شبلول أنه قد تنبه بعض القائمين على الندوات الأدبية أو الثقافية مؤخرا إلى أن وجود نوع أدبي واحد قد لا يجذب الجمهور، فبدأوا ينوعون من أنشطة الندوات لتشمل الشعر والقصة القصيرة والموسيقى والغناء والتعليقات النقدية السريعة إلى جانب عرض الأعمال التشكيلية والرقص التعبيري، لتكون الندوة حافلة بكل أنواع الإبداع. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا في الإعلان والترويج والدعوة لمثل هذه الندوات والملتقيات. وقد استطاع المشرفون على مثل هذه الندوات الاستفادة من إمكانيات وتقنيات تلك الوسائط فينشرون مقاطع الفيديو التي صورت أثناء عقد الندوة أو الصور الفوتوغرافية ويقومون بإنزالها على صفحاتهم ومواقعهم فيراها من حضر وشارك أو من لم يحضر ولم يشارك. والبعض ينجح في بث اللقاء حيا على موقعه من خلال التصوير المباشر.
ترتيب أولويات
أما الشاعر والأكاديمي يسري العزب، فيرجع الظاهرة إلى تغيرات طرأت في العقد الأخير على حياة المصريين، مما اضطرهم إلى إعادة  ترتيب أولوياتهم، فحلت الثقافة في ذيل اهتماماتهم، فنتيجة لانشغالهم بأزماتهم الحياة الاجتماعية والاقتصادية،  لذلك كان من الطبيعي أن ينشغلوا عن الثقافة وأنشطتها ومنها حضور الندوات، وقد وجد بعض الراغبين مبتغاهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك من فقدوا متعة القراءة الورقية واتجهوا إلى قراءة الكتب الـpdf كنوع من التوفير والتسهيل، ويتهم الدكتور العزب الفيس بوك بإحداث  فجوة بين القراء والمكتبات العامة، أو الندوات العامة، وذكر  تجربة الندوة الأسبوعية التي  يديرها  أسبوعيا بدار الأدباء بوسط القاهرة، فلا يحضرها إلا الأدباء الذين تناقش أعمالهم مصطجبين بعض أقاربهم وأصدقائهم، أما الجمهور العادي فيفضل المشاركة الافتراضية من خلال تصفح الفيس بوك، الذي يتيح له الكتابة تعليقا على أي شيء دونما رقيب أو مراجع، وهو يطالب المؤسسات الثقافية التي تقيم الندوات بالبحث عن عوامل جذب تشد القراء والمهتمين بالأدب والثقافة فتستعيدهم لتملأ  الأماكن الشاغرة في القاعات.
رد عملي
ويرى القاص المصري محسن يونس أن انصراف الجمهور العادي، بل وانصراف الكتاب كذلك عن الندوات أمر طبيعى جدا، فهو بمثابة الرد العملى على التردي العام، والثقافة جزء من هذا العام المتردي، فالجمهور يدرك بحدسه أننا نعيش زمن الزيف، والاهتمام المفرط بالردىء، وإقامة مهرجانات الإشادة الكاذبة، كل ذلك صار سمة غالبة لما يحدث عيانا جهارا دونما خجل، لقد صار أمر الكتابة سهلا، فلا مراجعة، ولا تصفية من جانب  الجهات المنوط بها النشر مثلا، وعموما هى لا تهتم بما ينبغى أن يتم بعد طباعة الكتاب، كقياس الاتجاه القرائى لدى جمهور القراء، أو الأسباب التى جعلت كتاب ما يوزع نسخا تتجاوز في عددها النسب المعروفة، إلى آخر هذه البحوث العملية المرتبطة بعملية النشر والقراءة.
ويضيف محسن يونس أن انصراف الجمهور عن الندوات الأدبية، يرجع لعدم وجود المثير والحماسي، ولجفاف الأجواء في مثل هذه الندوات النقاشية، إضافة إلى عدم الحصول على نسخة من الكتاب محل النقاش لارتفاع سعره أو لضعف الدعاية له، وأضيف أيضا زهق الناس ومللهم من طبيعة هذه الندوات وتكرار صيرورتها على مثال واحد لا يتغير، أما عن وسائل التواصل فلا يمكن لها أن تحل المشكلة، لأنها جزء من المشكلة، فقد انصرف الكثيرون إليها، وأصبحت هى الباب الذى يفتحونه على العالم. 
ويرى يونس أن الحل لن يأتي إلا من خلال مؤسسات وأفراد يهتمون بوضع الناس داخل العملية الإبداعية وتلقيها عبر وسيطهم، ووضع الحافز الذى يحقق تجاوبهم، وجمع آرائهم، وإبراز الحيوى والمهم منها.
السوشيال ميديا
وأخيرا يقوم القاص المصري حسين عبدالرحيم بتحميل المسئولية كاملة لوسائل السوشيال  ميديا، فقد صارت واجهة أو فاترينة تعرض كل صنوف الثقافة بداية من عنوان الكتاب حتى وصوله للجمهور بمتابعاته وقراءته ونقده، وحتى الاحتفاء بالعنوان وناشره من قبل وبعد، وهذا سلاح ذو حدين كما يقال فهو من جهة يسمح بانتشار الكتاب وكذلك المؤلف لكن بعيدا عن أي تقييم ونقد وفحص حقيقي كونه يدخل في إطار ماهية هذه الوسائل وطابعها الخفة، وأن كما كبيرا من روادها يبغي المتابعة  السريعة وليس التثقيف ولا الوقوف على متن الإبداع المكتوب، السبب الثاني هو أنه كان هناك بعد ثورة  يناير ثمة آمال في توسيع قاعدة التلقي والقراءة والفحص من قبل الجمهور الحقيقي، وكانت هذه الآمال قد ارتبطت بطفرة كبيرة مرئية ومسموعة تمثلت في  ظهور دور نشر ومكتبات، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن وكانت الطامة الكبري، متمثلة في انعدام الديمقراطية بشكل عام وكبح حريات المبدع بشكل خاص، فتقلصت مساحات وكم وكيف المعروض من مؤلفات في دور نشر كثيرة ملأت القاهرة والمحافظات.
في الغالب لهذين السببين كان التراجع وهذا رغم أن أغلب رواد مواقع التواصل لم يكونوا في يوما ما ولم يمثلوا جمهورا حقيقيا للقراءة ولا الأدب، ولا يرى حلا إلا في انفراجة ديمقراطية تمنح الناس حرية التلقي والمشاركة وإبداء الرأي. (وكالة الصحافة العربية)