قصر البارون .. قطعة من الزمن الجميل

البارون إدوارد إمبان، البلجيكي راهن قبل أكثر من قرن من الزمان على تحويل صحراء "هليوبوليس" بالقاهرة إلى واحة وارفة الظلال من طراز فريد في عمارتها.
كتل معمارية فريدة تجمع بين الشكل والوظيفة، شيدت على نمط البوابات البوذية لتتناسب مع طراز القصر الخارجي
القصر يحتوي على مجموعة تماثيل فائقة الروعة تنبض بروح الفن الرفيع
توفيق الحكيم ومارك لينز ودينس جونسون ديفز صحبة ثقافية في قصر البارون

منذ سنوات بعيدة، كنت أمر يوميًا بجانب سور هذا القصر المنيف الذي لا أتصور أن له مثيلًا من طرازه في مصر كلها، فهو مُشَيَّد على طراز هندي غير مألوف لنا في مصر. وكنت أحاول أن أعرف، ولو النذر اليسير، عن مَنْ قُدِّر لهم العيش فيه، قبل أن يصبح مجرد أثر يتوسط مساحة معتبرة من الحدائق المشرفة مباشرة على "طريق العروبة" الذي كانت مدرستي الثانوية تطل عليه.
مرت سنون، وابتعدت عن "مصر الجديدة" بعد أن توجهت للدراسة في "أكاديمية الفنون" بالهرم، ومن بعدها دخلت "بلاط صاحبة الجلالة" وأخذت أجوب أرض الله الواسعة ممثلًا لـ "دار أخبار اليوم".
ولكن القصر لم يبرح ذاكرتي؛ صحيح أنني عرفت بعد زمن أن صاحبه هو "البارون إدوارد إمبان"، البلجيكي الذي رَاَهن قبل أكثر من قرن من الزمان على تحويل صحراء "هليوبوليس" إلى واحة وارفة الظلال من طراز فريد في عمارتها متوسلًا في ذلك بأحدث ما وصل إليه تكنيك الهندسة والمعمار آنذاك.
وقد اختار "البارون" لنفسه هذا الموقع الاستراتيجي القريب من مناطق آثار "المطرية"، والذي أصبح بعد ذلك على مبعدة كيلومترات قلائل من مطار القاهرة، أو من "مدينة نصر"، التي قطنتها بعد أن أسسها جمال عبدالناصر في أعقاب قيام ثورة 1952.
ولأن القصر - بعد رحيل صاحبه، ومصرع ابنته مريام بداخله، وموت شقيقته هيلانة فيه - قد بات مهجورًا لسنين، فقد حرك ذلك خيال المصريين، ونسجوا حوله القصص؛ فمن قائل إنه مسكون بالجان والعفاريت، ومن قال بأن "عبدة الشيطان" يتخذون منه مقرًا لممارسة طقوسهم وشعوذتهم، ومن قائل إنه يحفل بالعديد من الأنفاق والممرات السرية تحت أرضه، وقد ظن البعض بوجود ممر سري يربط بين القصر و"كنيسة البازيليك"، التي دُفن بها "البارون".

بل وتزعم بعض القصص أن برج القصر يدور 360 درجة حول محوره، بغرض تقديم عرض بانورامي، أو أن المبنى يتحرك في اتجاه دوران الشمس.
 كما ذهب البعض إلى فكرة أن المهندس الذي صمم القصر استخدم حيلًا سحرية للانتهاء من تشييده، وأن "البارون" أمر بقتله ودفنه في حديقة القصر حتى لا يفشي أسراره.
ومنذ أعوام واتتني فرصة ذهبية لدخول هذا القصر، مدعوًا من مارك لينز، مدير قسم النشر الأسبق بالجامعة الأميركية بالقاهرة؛ ذلك الرجل الذي حلم بأن يقيم معرضًا للكتاب في حديقة القصر الملغز، ونجح في تحقيق حلمه فدعانا وقد أقام حفلا موسيقيا راقيا، قابلت فيه صديقي المترجم الشهير المستعرب البريطاني دينس جونسون ديفز الذي كان سعيدًا للغاية بصدور كتابه عن توفيق الحكيم الذى يحمل غلافه صورة للحكيم في شبابه، أهداها صاحب "عصفور من الشرق" لمؤلف الكتاب.
وأذكر أنني بمجرد أن دخلت حرم القصر، حاولت الوصول إلى قاعاته، ولكن دون جدوى، وكل ما بقي في ذاكرتي هو هذا التمثال الخلاب الذي يُجَسِّد حيوانًا أسطوريًا في هيئة تنين. 

Museums and palaces
روح الفن الرفيع

ولذلك فقد كنت أتابع باهتمام بالغ أي نبأ عن ترميم هذا القصر الأخّاذ وإعادة تأهيله وفتحه ليستقبل زواره، وما أن قام الرئيس عبدالفتاح السيسي بافتتاحه في هيئته الجديدة حتى شددت الرحال إليه في اليوم التالي لأمضي فيه ساعات من التأمل وتخيل ما كان يجري داخل جدرانه.
استقبلتني الحديقة الوارفة الخضراء رغم فعل الزمن بالقصر وأهله، وعلى مقربة من السلالم المؤدية لقاعاته وحجراته تصافح عيناك سيارة فارهة قديمة، توهمك بأنها على وشك التحرك لوجهة ما، وهي سيارة كانت للملك حسين أثناء تلقي تعليمه في مصر بمدرسة "فيكتوريا كوليدج" بالإسكندرية.
 ثم يقع بصرك على مجموعة تماثيل فائقة الروعة تنبض بروح الفن الرفيع؛ تمثال من الكونكريت لتاجي أفعى الكوبرا الحامية، وهي إحدى الكائنات الأسطورية التي تقوم على حماية الأماكن المقدسة، وهي مستوحاة من منحوتات أفاعي "الناجا" بمعبد "أنكور وات" بكمبوديا، وهي طابع مهم للعمارة الخميرية، وتمثال "نارسيس"، من الرخام الابيض للمعماري الفرنسي "أنطوان جارنو"، وهو يجسد شخصية "نارسيس" المُفتتن بجمال تفاصيل جسده، فكان يتطلع إلى انعكاس صورته على سطح ماء أحد الينابيع إلى أن سقط وغرق عندما حاول معانقة صورته، وتمثال الحورية "أمالثيا"، التي توضح الاسطورة الرومانية أنها كانت ترعى كبير الآلهة "جوبيتر" في طفولته، وترضعه من لبن عنزتها، وتحميه من والده الإله "ساتورن"، وتوجد نسخة أخرى من هذا التمثال في متحف اللوفر للنحات الفرنسي الشهير بيير جوليان، وتمثال "داوود المنتصر"، وهو يجسد القصة التوراتية للنبي داوود يغمد سيفه بعد ذبحه "جالوت" العملاق واضعًا رأسه المقطوع أسفل قدمه، وهو نسخة لتمثال آخر من البرونز بمتحف "أورساي" بفرنسا للنحات أنتونان مارسييه.
وفي أعلى مدخل القصر المهيب تطالعنا لوحة من الجص تمثل موضوعًا رئيسا في الفن البوذي، تصور الأسطورة البوذية حيث يحاول الشيطان "مارا" إلهاء "جوتاما بوذا" ومحاولة صرفه عن التأمل والوصول للحقيقة والتنوير، عن طريق إغوائه ببناته الثلاث الجميلات، ولكن بالطبع لا يستجيب "بوذا" لهذه المحاولات اليائسة.
وفي البهو الرئيسي تستقبلنا لوحة "أهلًا بك في حلم البارون إمبان" فتجد صورًا تاريخية للقصر في بداية تأسيسه تحت شعار "ميلاد مدينة" ومعلومات وصور عن المؤسس "البارون إدوار إمبان" وأخيه "فرانسوا إمبان" و"بوغوص نوبار باشا" تحت شارة "الأشخاص الذين حققوا الحلم".
وعن يمين البهو، قاعة تشي زخارف سقفها المكونة من مجسمات لفواكه مختلفة، بأنها قاعة الطعام. وإلى جانبها تقع غرفة التخديم، التي كانت تستخدم كنقطة تحكم، فكان الطعام يُنقل إليها من المطبخ الموجود بالبدروم، ومنه يحمل إلى غرفة الطعام، وتتصل نلك الغرفة بالبدروم عن طريق سلم حلزوني، ومصعد كهربائي، وتحتوي على خزانة "مناولة" كان يتم من خلالها توصيل الطعام من المطبخ إلى الغرفة. وتوجد بالقاعة أيضًا مدفئتان على أحدث طراز في ذلك العصر.
وعن شمال البهو الرئيسي نجد قاعة استقبال بديعة بها مدفأة ضخمة تعمل بالفحم.
ومن ذاكرة القصر يمكننا التعرف على تاريخ إنشاء "مصر الجديدة" على يد "البارون إمبان" وشريكه "نوبار باشا"، التي تبدأ عام 1905 بشراء 6000 فدان من الصحراء لبناء ضاحية مصر الجديدة، ثم تعيينه نائبًا لرئيس ومدير شركة سكك حديد مصر الكهربائية وواحات هليوبوليس.
حرص البارون على أن تجمع "مدينة هليوبوليس" بين إحياء العمارة الإسلامية في القاهرة وأحدث التكنولوجيا في مجال التخطيط العمراني وبناء المدن آنذاك، كما جمع التقاليد الفنية الأوروبية في العمارة والطابع الهندي الخلاب في قصره. 

Museums and palaces
القصر بين عهدين

و"حبيب يوسف عيروط" كان المهندس المصري الوحيد في فريق تصميم شركة "سكك حديد مصر الكهربائية وواحات هليوبوليس".
وتميز بحرصه على تخطيط وتصميم المباني بشكل يتماشى مع الطابع المحلي للضاحية، وكان مسئولًا عن تنفيذ بعض المساكن المتواضعة، ولكنه نفذها بتصميم راق وجيد توفر مستوى حياة جيد وصحي لبعض السكان البسطاء ممن أقاموا بمصر الجديدة من عمال وحرفيين. واستكمل اثنان من أبناء "عيروط" أعمال والدهما في بناء "مصر الجديدة"، وهما: "ماكس" و"تشارلز"، وتدين لهما الضاحية بالكثير من مبانيها التي تحمل طراز "الآرت ديكو" المميز. 
اهتم "البارون إمبان" بالربط بين واحته الجديدة والقاهرة الخديوية، والعباسية، والعديد من المناطق، فحصل على حصة في جمعية الترام البلجيكية في القاهرة، وذلك بعد اشتراكه في بناء عدة أنظمة للنقل العام في العديد من البلدان الأخرى، ومد خط ترام من ميدان العتبة إلى العباسية ومنها إلى مصر الجديدة، وتم افتتاح هذا الخط الذي بلغ طوله 16 كيلومترًا يوم 9 مايو/آيار 1908، ثم أضاف البارون خطًا آخر عبر المدينة الجديدة من الغرب إلى الشرق في عام 1909، ثم افتتح خطًا سريعًا يصل إلى وسط القاهرة يوم 11 يوليو/تموز 1910، المعروف باسم "مترو مصر الجديدة"، وقد تم عمل امتدادات إضافية لشبكة الترام، لكن لم تتم صيانتها بشكل دوري مناسب، وبحلول أواخر القرن العشرين تدهورت حالة تلك الامتدادات حتى أُغلق الخط تمامًا في عام 2016.
كان البارون إمبان مفتونًا بـ "القاهرة الخديوية" التي أنشأها الخديوي إسماعيل لتصبح "باريس على النيل"، وارتفعت أسعار الأراضي في تلك المنطقة المطلة على نهر النيل إلى مستوى لا نظيرته في بروكسل أو باريس. ففكر البارون في شراء أراضي رخيصة وربطها بوسط المدينة. بعد بناء مدينة جديدة عليها، ومن هنا ولدت فكرة "واحات هليوبوليس".
واختار البارون لمدينته الحلم موقعًا بالقرب من أحد أهم وأقدم معابد مصر القديمة، بالقرب من "المطرية" وكان يطلق عليه المصريون القدماء "أونو" وفي التوراة أطلق عليه "أون" وأسماه الإغريق "هليوبوليس" وكلها أسماء تعني "مدينة الشمس"، أو "عين الشمس". وكانت مركزا لعبادة "رع"، وكانت توجد بها العديد من المسلات التي خصصت لـ "رع"، وتم نقل ما لا يقل عن عشر مسلات منها إلى روما، وفي ميدان "فيكتوريا إمبانكمينت" في لندن تنتصب واحدة منها، وأخرى في "سنترال بارك" في نيويورك، وبقيت مسلة واحدة في موقع المعبد الأصلي في "المطرية" وهي الخاصة بالملك "سنوسرت الأول".
وكي يتيقن البارون من عدم وجود أي آثار بالمنطقة قد تتأثر بأعمال البناء، توجه إلى عالم المصريات "جان كابار"، أمين المتاحف الملكية ببروكسل، للقيام بعمليات حفر استكشافية في المنطقة المراد البناء عليها، ولم تسفر عمليات الاستكشاف عن شيء.
نعود للتجول بين جنبات القصر، فنصعد الدرج الرخامي للطابق الأول، ونعلم أن مهندس الديكور الفرنسي جورج لويس كلود هو الذي تولى تصميمه ضمن ديكورات القصر، وقد التزم بتوجيهات البارون بشأن تزيين غرف القصر بأسلوب الباروك الأوروبي الفاخر، ولكنه أبدع في تصميم الحمام الرئيسي، وتزيين أرضية سطح القصر "الروف" بـ "الموزاييك" على طراز فن "الآرت نوفو".

والسلم حلزوني من رخام "كرارة" الإيطالي الأبيض.، كما يمكن أيضًا الصعود للطابق الأول عن طريق المصعد الكهربائي.
 ويتكون الطابق الأول من صالة كبيرة وأربع غرف، كل منها بحمام خاص، وتوجد بهما شرفتان كبيرتان تطلان على حديقة القصر الخلفية، ويتصل الطابق الأول بالسطح عن طريق سلم حلزوني من "خشب الأرو" الذي صنع خصيصًا للقصر، وتم تركيبه عام 1908 في برج القصر.
وعلى السطح يطالعنا منظر خلاب؛ كتل معمارية فريدة تجمع بين الشكل والوظيفة، شيدت على نمط البوابات البوذية لتتناسب مع طراز القصر الخارجي، فيما تم توظيفها كمداخن لدفايات القصر. كما نرى المصعد الكهربائي الذي يبدأ من البدروم ليوصل للسطح، ويحاط بالفيلة الهندية.
وتنتهي جولتنا في القصر والدهشة مستمرة.
هي رحلة تنقلك من عالم اليوم الذي يحفه وباء "كورونا" وأحزان الحروب والآلام التي تكتنف البشرية، إلى لحظة من "زمن جميل" بكل معنى الكلمة فتكاد ترى أطياف من سكنوا القصر وعمروا قطعة الصحراء حتى صارت "واحة" عن حق.