"قميص قدَّته الحرب" تأريخ نفسي للحروب

عنوان ديوان علي إبراهيم صافي يخلع على الحرب صفات آدمية، فهي أخذت من الإنسان أفعاله، ثم صارت تطارد هذا الإنسان نفسه بعد ذلك.
أغلب قصائد الشاعر العراقي يتجلى فيها الصراع مع الذات التي تريد أن تعيش الحاضر بينما الذاكرة محملة بالحرب
أنا لست بقاتل/ ماذا أفعل بهذه الجثة؟ الجثة التي خبأتها في رأسي/ الحرب

"قميص قدته الحرب" ديوان للشاعر العراقي المقيم في منفاه بالنرويج علي إبراهيم صافي، وهو ليس مجرد عنوان لديوان، ولكنه بمثابة التأريخ للحالة النفسية التي تتلبس من أجبرتهم الحروب على الفرار من أوطانهم، لاجئين إلى دول ومرافئ لا تعرفهم ليعيشوا هناك حيوات متشظية مفكّكة، هذا إن فتحت لهم أبوابها. 
عنوان الديوان، يخلع على الحرب صفات آدمية، فهي أخذت من الإنسان أفعاله، ثم صارت تطارد هذا الإنسان نفسه بعد ذلك، تخلع عنه روحه التى بدونها يصبح الجسد مجرد جثة عارية من الحياة تنتظر أن يقبرها أحد ليواري سوأة مواتها. 
والفعل "قـدَّ" معناه "شق" وقد الثوب، أي شقه طولا. ولكن أي شيء قدته الحرب طولا؟ هل يقصد الشاعر "القميص" الذي يلي الجسد ويكون إلى اللحم والدم أقرب؟ أي القميص الذي يُلبس وهو مذكر. أم يقصد به "الدرع" فيؤنث؟ مثلما أَنثه "جرير" حين أَراد به الدرع فقال: تَدْعُو هوازن والقميصُ مُفاضةٌ.."، ولكن لو كان هذا المعنى هو مقصد الشاعر فما أيسر استبدال قميص بآخر، ودرع بدرع غيره أمضى وأشد. 
ويتجدد السؤال هنا: أي قميص مزقته الحرب طولا وجعلته شطرين؟ يذكر في معنى قميص (قَميص: (اسم) القَمِيصُ: الجلبابُ، والقَمِيصُ: غِلافُ القلب، والقَمِيصُ: المشِيمة). القميص إذن هو غلاف القلب الذي تهتك وانفطر من مشاهد الحروب وفقدان الأحبة. وهو أيضا المشيمة أو الخلاص الذي تتوقف عليها حياة الجنين في بطن أمه قبل أن ينفصل عنها خارجا من رحمها الرحيم صارخا في وجه قسوة الحياة التي تنتظره. وهكذا هو فعل الحرب، تشتت أبناء الوطن الواحد، تقطع أرحامهم، وتلقي بهم في منافي الأرض، تجعلهم يستنشقون الخوف مع أنفاسهم: في الحرب/ لم تصبه الرصاصة/ الجندي الشاب/ مات من الخوف.
من اللافت في الديوان، أن قصائده جاءت بلا عناوين، كل قصيدة تحمل رقما قد لا ينتبه القارئ لوجوده، فيظن للوهلة الأولى أن الديوان كله قصيدة واحدة موزعة على 143 صفحة هي عدد صفحات الديوان، بينما عدد المقاطع أو القصائد فيه 128 قصيدة. فبعد أن تنتهي أفعال الحرب المعتادة، وما يصاحبها من أفعال الشجب والإدانة، وتنتهي كل المفردات على أعتاب المجازر، يغرق الإنسان في حالة من الانشطار والنسيان، لا يعرف له اسما ولا عنوانا، ويصبح مجرد رقم  في عداد الموتى أو الأسرى، ولذلك من الطبيعي أن تكون القصائد نفسها بلا عناوين، لتعكس وجهة نظر الشاعر في عملية الكتابة: "الكتابة لدي هي فعل متواصل، بمعنى أنني أسعى لكتابة  نص واحد لكنه مجزأ. قد تختلف بعض المناخات هنا أو هناك، لكنني في كل مرة أكتب شيئا جديدا هو في الحقيقة تكملة لما سبقه، قد تكون هناك بعض التغييرات التكنيكية في بناء وموضوع النص لكن الأمر في النهاية هو فعل كتابة واحد طالما لدي القدرة الذهنية والبدنية لأقول ما أريد. لذلك ليست هناك عناوين لنصوصي، إذ أني أعتبرها نصا واحدا أحاول كتابته طيلة حياتي."
يحتوي الديوان على قصائد تتراوح بين الطول والقصر، بعضها لا يتجاوز أربعة أسطر فيما يشبه الرباعيات، تسيطر عليها فكرة الحرب التي لا يستطيع منها فرارا حتى بالنسيان: يا إلهي! أنا لست بقاتل/ ماذا أفعل بهذه الجثة؟ الجثة التي خبأتها في رأسي/ الحرب.
 وقد لا تتعدى جملتين: تصدأ الرصاصة/ لكنها تظل قاتلة. وفي مقطع آخر يقول: أنا أهرب/ وهي/ تلم الرصاص الطائش/ لتدله علي/ ما زال هناك متسع/ من الحرب.
 وأغلب قصائد الديوان يتجلى فيها الصراع مع الذات التي تريد أن تعيش الحاضر بينما الذاكرة محملة بالحرب: الحفلة لم تنته بعد/ الرأس ضاج بالأفكار/ الرأس الذي أنزعه دائما / لأدخل الحفل. ولكن هل يفلح فعلا في محاولات النسيان ويفلت من الحزن؟ يقول صافي: طائر الحزن! نسي كيف يطير/ بعد أن أكل حبات النسيان/ بقي ينبش في الذاكرة. 
 ويحفل الديوان أيضا بصور مدهشة لجأ إليها الشاعر مرارا كي يعبر عن محاولات التغلب على الواقع الحزين، بالتخييل تارة وتارة بكتابة الشعر: أن أصبح طباخا ماهرا لأعد حساء الضفادع/ أقدمه للنهر الحزين الذي يجري بجانبي/ دموع كثيرة فاضت.. والنهر ما زال يجري/ دون اكتراث/ أريد أن أصبح طباخا ماهرا لأقطع الأيام الحزينة/ إلى مكعبات أو دوائر ليسهل ابتلاعها. 
ولكن كتابة القصائد لا تريح النفس المتعبة، وأحلام من عاش الحرب ما هي إلا انعكاس لنهارات الحروب: أحلامي أسلاك شائكة / أعبرها تاركا عليها/  قميصي/ قميصي.. الذي قدته الحرب. 

Iraqi poetry
ما الحرب إلا رحلة الرصاصة إلى قلب الجندي

وهناك دهشة المفارقة: في كل مرة تسقط دمعة / تنبت زهرة بجانب قبر/ حتى امتلأت البلاد بالزهور.. "الأشباح التي تنام في القصائد/ كلما كتبت قصيدة/ نبت زهرة على شاهد قبر".
تظهر الحرب في الديوان مثل امرأة العزيز التي كلما فر منها يوسف، زاد إصرارها، تُحيك له المؤامرات تبغي وصاله، وهو يفر منها، حتى تمكنت منه وقدت قميصه من الخلف بينما كان يحاول الهرب.
هكذا فعلت الحرب مع الشاعر، فكلما حاول أن يتجنبها، كانت تسعى وراءه، حتى تمكنت منه، وشطرته رغما عنه. فلا مجال لتجنب الحروب التي يصنعها الكبار ولكنهم لا يخوضونها بأنفسهم: 
أنا ابن الحرب العاق
كم حاولت أن تجعل
مني بطلا 
لكنها لم تفلح
 أتركها دائما تعوي
 وأطلق ساقي للريح 
أتركها تعوي 
مثل ذئب ندل 
وأركض نحو طفولتي 
أخلصها من أنيابه.
كذلك تظهر في الديوان تيمات الفقد والغربة والإحساس بالفراغ، حتى أصبح مرور الأيام ثقيلا مثل سقوط القذائف: القذائف التي أحصيتها / في الحروب القديمة / هي أيامي الفاسدة / أيامي التي سقطت / بالقرب مني ولم تنفجر.
وفي الغربة يجترُّ أيام الوطن وهو يتحدث مع جارة عجوز، تظن أنه يستمع إليها بينما هو يستحضر جداته: تخبرني عن حياتها / عن عملها عندما دخل النازيون / إلى أوسلو / وهي الممرضة الشاطرة / نثرثر بقدر كمية الشمس التي تمنحها لنا الطبيعة / أمسك يدها بحنو / ونضحك / بينما أفكر/ بجداتي الحزينات. 
وهو في الغربة لا ينسى حوادث الوطن الذي فر منه لاجئا: القرية نائمة/ منذ ربع قرن/ والفجر لم يأت/الشمس تنتظر/منذ ربع قرن/ لا شيء/غير سحابة غريبة/ ورائحة تفاح/ تغطي وجه حلبجة.  الحروب بدخانها/ ملأت سماء طفولتي/ لذا كبرت / ولم أتعرف على نجمة واحدة. 
وفي مقطع آخر يقول: كل الحروب../ التي لم أمت فيها/ هي حياتي/ ما تبقى.. محاولات فاشلة للنجاة.. حروب كثيرة / لا أدري من أي منها نجوت.. فما الحرب إلا.. رحلة الرصاصة / إلى قلب الجندي.
ديوان "قميص قدته الحرب" للشاعر العراقي علي إبراهيم صافي هو مرثية للوطن وللأصدقاء: لماذا؟ أصدقائي الذين لم/ يتعلموا السباحة/ غرقوا في دمائهم. 
صدر الديوان عن الروسم للصحافة والنشر ببغداد.