كلام جرايد .. أصل وصورة

أجهزة الإعلام أصبحت تبحث عن زيادة التوزيع وزيادة عدد المشاهدين.
فبركة الحديث الصحفي وباقي الأخبار كان فيها شيء من المبالغة
الفبركة متأصلة في الجينيات الإنسانية

مسرحية "أصل وصورة" بطولة محمد عوض وعبدالمنعم مدبولي وحسن مصطفى وأمين الهنيدي تم عرضها في مصر في ستينيات القرن الماضي، ويمكن مشاهدتها على موقع اليوتيوب بالكامل على هذا الرابط أدناه.
وهي تحكي عن صحفي شاب (محمد عوض) ورئيس تحرير الجريدة (حسن مصطفى) التي يعمل بها يطلب منه أن يذهب إلى مطار القاهرة لكي يكون في استقبال مهراجا هندي ثري وياخذ معه حديثا صحفيا ويسأله أسئلة مهمة مثل: المهراجا أهلاوي ولا زملكاوي؟ هل المهراجا يحب الملوخية؟ وغيرها من الأسئلة. ويتحمس الصحفي الشاب للمهمة ولكنه لسبب ما لم يستطع الذهاب للمطار وراحت عليه فرصة عمل لقاء صحفي مع المهراجا، ويعود الى مقر صحيفته حزينا وخائباً ويقابله زميله في الجريدة الصحفي المخضرم عبدالمنعم مدبولي، ويحكي له ان اللقاء مع المهراجا قد فاته ولا يدري كيف يواجه رئيس التحرير الذي ربما يرفده من وظيفته. 
ويقوم الصحفي المخضرم بتهدئته ويقول له ولا يهمك سوف نقوم بكتابة حديثك الصحفي مع المهراجا، ويبدأ في تعليمه كيف يقوم بفبركة الحديث الصحفي، وبدا الصحفي المخضرم يملي على الصحفي الشاب مقدمة الحديث الصحفي بقوله: .... وما أن نزل المهراجا من الطائرة راكبا فيله الأبيض!! فتوقف الصحفي الشاب عن الكتابة، وقال: يا عبدالعزيز هو فيه فيل أبيض؟؟ لذا فإن اعتراضه كان على لون الفيل وليس على أن المهراجا نزل من الطائرة راكبا الفيل! ولكي يملأ الصحفي الصفحة فإنه أخذ يطيل ويمط في الجمل ومنها الجملة المشهورة: إن المهراجا عندما وجه إليه الصحفي الشاب سؤالا فإنه: أخذ يفكر ويفكر، ثم عاد يفكر ويفكر، ونظر لي برهة ثم اخذ يفكر ويفكر، وكان في أثناء تفكيره يفكر ويفكر .... وبهذا ملأ عدة أسطر من الصفحة.
والمسرحية طبعا مسرحية كوميدية لذا فإن فبركة الحديث الصحفي وباقي الأخبار كان فيها شيء من المبالغة، ولكن من حيث المبدأ فإن فبركة الأخبار موجودة في كل صحافة العالم، لذلك فإن الناس بطبيعتها عندما لا تصدق خبرا يقولون: "ده كلام جرايد"! وصارت مثلا. 
الميديا بصفة عامة سواء المقروءة أو المرئية أو المسموعة وظيفتها الأساسية هي نقل الأخبار لنا بكل أمانة ومحاولة إيصال: الحقيقة، كل الحقيقية، ولا شيء غير الحقيقة.
ولكن من النادر أن تجد هذه الأمانة من الميديا بأنواعها، لأن كل أجهزة الإعلام أصبحت تبحث عن زيادة التوزيع وزيادة عدد المشاهدين، لذلك فكلما زادت الإثارة زادت الإعلانات وزاد الدخل والمكسب، وأذكر ونحن أطفالا صغارا في القاهرة، كان بعض باعة الصحف، لا يكتفون بالقصص المفبركة والمنشورة في الصحف التي يبيعونها ولكنهم رغبة منهم في بيع كل ما بحوزتهم من صحف، كان بعضهم يفتعل أخبارا ليست منشورة أساسا في الصحف، مثل أن يزعق البائع بعلو صوته وهو ينادي على الجرائد: أخبار، أهرام، جمهورية، قرب تعالى أقرأ حادثة: "الست إللي أكلت دراع جوزها"!

وما زاد الطين بلة الآن هو وسائل التواصل الاجتماعي والتي جعلت من كل إنسان على الكرة الأرضية "صحفيا" والمؤهل الوحيد لديه تليفون موبايل ويعرف كيف "يفك الخط" ويكون لديه شهادة ميلاد على الأكثر، ويحاول هؤلاء الصحفيون الجدد وعددهم الآن بمئات الملايين نشر أكثر الأخبار الملفقة إثارة وتفوقوا كثيرا على خبر "الست إللي أكلت دراع جوزها"! وكلما كان الخبر المنشور على فيس بوك أو تويتر أو الواتس آب، غريبا ومثيرا وكاذبا، أصبح أكثر إنتشارا، بل فإن موقع مثل يوتيوب يدفع مبالغ مالية لو زاد عدد مشاهدين الفيديو الذي تنشره عن عدد معين، وأصبحت الفبركة وتلفيق الحقائق مصدر رزق لعديد من الناس حول العالم.
ولم يقتصر الفبركة على الأخبار، ولكن بإستخدام التكنولوجيا الحديثة مثل "الفوتو شوب" فإنه بالأمكان الآن فبركة الصور، ولو أعيد إخراج مسرحية "أصل وصورة" في القرن الواحد والعشرين، لرأينا (باستخدام الفوتو شوب) صورة "المهراجا ينزل من الطائرة راكبا فيله الأبيض" بدون أي مشكلة، ولم يقتصر الأمر على فبركة الصور فقط ولكن يتم الآن فبركة أفلام الفيديو ووضع وتركيب كلام وتصرفات على بعض المشاهير والساسة بحيث تشوه صورتهم أو ترفع من شأنهم، ومنذ أسابيع قليلة شاهدت فيديو لملكة بريطانيا وهي ترقص بطريقة غير معقولة البتة، وكذلك رأيت فيديو للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وهو يتكلم اللغة العربية بطلاقة، وفيديو للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وهو يؤذن لصلاة العصر.
وبالطبع أشهر أنواع الفبركة هو خلط الآراء بالحقائق، وهذا هو تخصص أصحاب برامج "التووك شو" الذين يجلسون بالساعات يتكلمون في كل المواضيع ويستضيفون الخبير الرياضي، والمحلل الإستراتيجي، والداعية الإسلامي، والسياسي المخضرم، والفنان الكبير، والكاتب المعروف، ووو... وفي الغالب لا يمنح المذيع أي مساحة لضيفه بأن يتكلم، حتى أن بعض أشهر المذيعين الآن أخذوها من قصيرها وبطلوا إستضافة أي ضيوف وقاموا بالليلة بأنفسهم فقط ولا الحاجة إلى الضيوف.
ويبدو أن الفبركة هي متأصلة في الجينيات الإنسانية، فلو تقرأ تاريخ أي حقبة زمنية فسوف ترى العجب، وما عليك إلا أن تقرأ من طرف المنتصر ثم تقرأ من طرف المهزوم، وحتى الآن في دولة متقدمة مثل أميركا، وبها كم حريات لا تعادله دولة أخرى، لو قرأت الأحداث من جانب الجمهوريين أو من جانب الديموقراطيين، لسمعت العجب العجاب وكأنك تعيش في دولة لها إنفصام في الشخصية.
الحل هو ما فعلته أنا منذ أكثر من سنة، هو مقاطعة كل أنواع الميديا، حتى يختشوا على دمهم.