كلمني .. شكرا

الكلمة تحول العدو إلى صديق، والخصام إلى صلح، والحرب إلى سلم، والحزن إلى فرح، والكآبة إلى بهجة.
للكلمة طاقة عقلية تمثل المعنى الظاهر، بينما تمثل الطاقة العاطفية المعني الباطن
قوة الكلمة ودورها فى صنع مصير الإنسان وقدراته

"أنت سالم ما سكت فإذا تكلمت فلك أو عليك."
الكلمات ليست صامتة، للكلمة سحر وهذا السحر يستقبله مستمع الكلمة، فمن كلمات بسيطة قد يحبك الآخرون ويستأنسون لاصطحابك، وقد يكون العكس من كلمة واحدة يأخذ الآخرون عنك انطباعآ سيئآ، فالكلمات ليست مجرد أصوات نطلقها، أو أحرف نكتبها، إن الكلمة معنى ندركه وأثر نتركه، الكلمة مسئوولية نتحملها، وأمانة نؤديها.
الكلمة في ذاتها طاقة فاعلة وقوة مؤثرة في المتكلم والمتلقي - مستمعا وقارئا - وفي الوجود كله، ولها حضورها لأنها أداة الفعل والحراك، فالعقل يبعث الكلمة ويطورها ويشكلها، وربما تتحول إلى قرار يغير مجرى حياة الأفراد والأمم، فكم كان للكلمات من دور فى الحرب والسلم والنزاع والوفاق، والقرب والبعد، والحل والعقد، والبناء والهدم، والوعي والتخلف.
للكلمة طاقة عقلية تمثل المعنى الظاهر، بينما تمثل الطاقة العاطفية المعني الباطن، أو بتقسيم آخر فى كتابه "المعنى وضلال المعنى" كما عنونه بذلك الدكتور محمد محمد يونس علي حول الأنظمة الدلالية، أن الإدراك الدلالي للمعنى الحالي والمتكون للكلمة لا يكون إلا باشتراك الطاقتين وتعاون المعنيين، ومن هنا ندرك السر فى الجفاف العاطفي في بعض الخطابات الثقافية، والعلمية والدينية بل حتى فى الخطابات السياسية والاقتصادية، هو نقصان الدفء العاطفي، فالكلمة التي لا تحمل حرارة الصدق سوف تكون قاصرة الأثر ناقصة الفعل، وسوف تتحول إلى سلة المحذوفات، لهذا فالمخزون العاطفي فى كلماتنا يجب استثماره وتوظيفه لصالح حركتنا فى الحياة لأن الكلمة سلاح العصر، وليت خطاباتنا الثقافية ومناهجنا التعليمية وكلماتنا السياسية تتغير لتحمل فى طياتها لمسات العطف والحب.
كم من كلمات كتب لها الخلود، وكلمات حركت الوجود، وكلمات غيرت المسار،  وكم من كلمة رفعت شخصا، وحطّت من قيمة آخر، وإذا كان الإنسان يموت فإن الكلمة لا تموت، كما لا يموت أثرها بين الناس، ومن أوضح الأمثلة على هذا تأثير قصائد المدح والهجاء التي تُقال في حق بعض الأشخاص، فتخلّدهم كما وصفوا شعريا، وليس كما عُرِف عنهم واقعيا.  

fine arts
الناس في بلادي جارحون كالصقور

كان هجاء المتنبي لكافور الإخشيدي، ومدحه لسيف الدولة الحمداني خير دليل على ثبات الكلمة - خصوصا حين تقدَّم في سياق أدبي - حتى إن خالفت الواقع التاريخي، إذ تذكر بعض المصادر التاريخية لكافور خصالا حسنة جمّة تفوق ما وصف به المتنبي سيف الدولة، ولكنّ كلمة المتنبي المقدمة في قالب الشعر كانت أبقى.
والكلمة تؤدي أحيانا إلى موت شخص، وبكلمة قد تُكتب لآخر حياة جديدة، ولو أردنا أن نسرد أسماء الأدباء والشعراء الذين قتلتهم الكلمة فإننا لن ننتهي من ذلك بسهولة، ولعل أشهرهم عندنا قديما هو المتنبي الذي يُقال إنه قُتل ببيت شعر قاله عند عودته للكوفة مع ابنه؛ قابله جماعة من قطاع الطرق تربصوا به فلما أراد المتنبي أن يهرب قال له غلامه مفلح كيف تهرب وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له: قتلتنى قاتلك الله، وعاد المتنبي للقتال حتى قتل.
وأشهرهم حديثا صلاح عبدالصبور الذي قتلته  كلمة، بعد أن أودع شجنه وحزنه في كلمات قصار "الناس في بلادي جارحون كالصقور".
هذا وإن دل فهو دليل على قوة الكلمة ودورها فى صنع مصير الإنسان وقدراته علماً بأنّ الكلمة الطيّبة تعكس تربية صاحبها وثقافته وأخلاقه، وكلّما ارتقى الإنسان في العلم والمعرفة والدين ارتقى قاموسه اللغوي، وازدادت لديه مهارة القدرة على اختيار الكلمات المناسبة، فالكلمة الطيبة تساعد على الإقناع، وتزيد من تقبل الآخرين لأيّ أمر، وتعزز من الألفة وتقلّل من الجدال. تعكس صورة رائعة عن الشخص، وعن خلقه ودينه وبلده، وتنشر مشاعر الألفة بين القلوب الغريبة، وتبعث طمأنينة في قلوب الأشخاص الّذين نراهم لأوّل مرة. 
الكلمة تحول العدو إلى صديق، والخصام إلى صلح، والحرب إلى سلم، والحزن إلى فرح، والكآبة إلى بهجة. إنّ الكلمة الطيّبة يُرد عليها بكلمة طيبة مثلها في الوضع الطبيعي، ممّا ينشر الود والاحترام بين كافة أفراد المجتمع، وينتقل هذا النوع من أدب الحديث بين الناس، وينتج عنه مجتمعات حضاريّة راقية خالية من المشاحنات والتعصب.