كي لا يتحول الأردن إلى ثقب إستراتيجي أسود

قطعت أجهزة الحكم شوطا آخر في الابتعاد عما يهم الأردنيين، الذين كانوا قبل نشوب أزمة الأمير يراقبون عن بُعد أيضا كيف تتشكل الحكومات وتتغير وتتعدل ويُقال الوزراء ويستقيلون، وكيف يبدو البرلمان مثل منتدى يعلو صوته في القضايا الجانبية ويسكت على ضياع دوره الدستوري في الرقابة على الحكومة.
ثقب يبتلع الأموال وتتوه فيه الأزمات وتختفي معه الأدوات القديمة في السياسة الخارجية
التباعد عن الناس الذي صنعته أجهزة الحكم أضعفَ "الجبهة الداخلية" وهز تماسكها في ظرف حرج

سلسلة أزمات أذكت الاضطراب الاجتماعي والسياسي ونالت من الاقتصاد الهش ثم رسمت حدودا واضحة لتحركات الأردن في الإقليم، حتى يمكن القول ان الاردن قبل سنة فقط ليس هو الأردن اليوم وأن المخاوف مشروعة من أن يتحول الى ثقب إستراتيجي أسود.
التغيرات العميقة التي تشهدها المنطقة تسير على عكس ما يريد الأردن منذ توقيع "اتفاقات ابراهام" العام الماضي وما يرتبط بها من ظهور أولويات جديدة للقوى الإقليمية الكبرى وتناسي مفاوضات السلام بين الفلسطينيين واسرائيل وأخيرا المواجهات والاشتباكات التي شهدتها القدس وغزة.
لم يكن دور الأردن على ما يرام في أحداث فلسطين. سواء في القدس حين كان بوسعه الاستناد الى الشارع الغاضب والبرلمان الداعم والتوتر المسبق مع حكومة بنيامين نتانياهو و"الوصاية الهاشمية" لاتخاذ موقف واضح يضبط العلاقة مع اسرائيل ويضع حدا لاعتداءاتها على المقدسات، او في غزة حين انبرت اكثر من دولة عربية وعلى مدى 11 يوما للتدخل والوساطة بين اسرائيل وحماس الى ان استعادت مصر زمام المبادرة ونجحت في وقف القتال.
غاب تأثير الأردن عن فلسطين مع انه الأكثر تأثرا بالقضية الفلسطينية بعد الفلسطينيين، وهو معني مباشرة بأي حل سياسي ممكن للصراع غربي النهر وأيضا بما تسمى قضايا "الوضع النهائي"، ومنها قضية اللاجئين التي طال ما رفض الملك عبدالله الثاني تسويتها على حساب الأردن، حيث نصف السكان تقريبا من أصول فلسطينية.
مفهوم انسجام موقف عمّان بشأن أحداث القدس وغزة مع توجهات الإدارة الاميركية التي أعادت الحديث من جديد عن "حل الدولتين" بما يرضي الأردن ولو من دون خطة. لكن المملكة كانت حتى العام الماضي إحدى دولتين عربيتين أقامتا علاقات مع اسرائيل، قبل ان تطبّع أربع دول عربية أخرى مع الدولة العبرية برعاية الإدارة الأميركية السابقة. وحينها شعر الأردن بضيق شديد في هامش الفعل السياسي بالنسبة للقضية الفلسطينية.
هبطت تداعيات الأحداث في القدس وغزة على الأردن في وقت لا تزال فيه أزمات أخرى مفتوحة ومتشابكة وربما عالقة، أبرزها الخلاف بين الملك وولي العهد السابق الأمير حمزة وحالة عدم الاستقرار الحكومي والإخفاقات في إدارة أزمة الوباء. وأفضى هذا كله الى استياء عام وإحساس يتعزز لدى الأردنيين بأن أجهزة الحكم تنأى بنفسها عن الاقتراب من اهتمامات الناس ولا تعنيها كثيرا الشفافية والمكاشفة.
لا تزال أسئلة رئيسية عن أزمة الأمير حمزة من دون إجابات مع أنها سُميت رسميا بـ"الفتنة" التي كان من حق الأردنيين ومن مصلحة الحكم الكشف التام عن كل محركاتها بلا أي لبس او سوء فهم: الأمير الذي يتمتع بشعبية واسعة وانتقد علنا أداء أجهزة الحكم، لا يظهر في وسائل الاعلام او مواقع التواصل ولا يُعرف على وجه الدقة مصيره أو تفاصيل الاتفاق معه داخل العائلة المالكة. ثم لماذا إحاطة باسم عوض الله والشريف حسن بهذه الهالة من السرية والتكتم على مكان وظروف احتجازهما، ما داما متهمَين في قضية أظهرتها الحكومة على أنها مؤامرة ضد نظام الحكم.
بذلك، قطعت أجهزة الحكم شوطا آخر في الابتعاد عما يهم الأردنيين، الذين كانوا قبل نشوب أزمة الأمير يراقبون عن بُعد أيضا كيف تتشكل الحكومات وتتغير وتتعدل ويُقال الوزراء ويستقيلون، وكيف يبدو البرلمان مثل منتدى يعلو صوته في القضايا الجانبية ويسكت على ضياع دوره الدستوري في الرقابة على الحكومة.
كل هذا والأردن يعاني من أزمة الوباء ومن سوء إدارة الأزمة، رغم ان بيد الحكومة سلطات استثنائية كما لو كان البلد في حالة حرب. ومع ذلك فرضت الأزمة ضغوطا مكثفة على النظام الصحي وخرجت الحكومة بقرارات حظر وإغلاق، كثير منها غير مفهوم او غير مفسَّر أو محاط بالتناقضات.
وحين اندلعت الاحتجاجات أوائل الربيع للمطالبة بإصلاحات سياسية موعودة منذ سنوات، لم يكن لدى السلطات من خيار آخر الا تفريقها بالقوة والاعتقالات.
هذا التباعد عن الناس الذي صنعته أجهزة الحكم أضعفَ "الجبهة الداخلية" وهز تماسكها في ظرف حرج، سواء في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة او على صعيد الاقتصاد الأردني الذي تديره الحكومة بما تفرضه من ضرائب ورسوم وبما تحصل عليه من مساعدات وقروض أجنبية.
تكفلت أزمة كورونا بكشف خطورة الاختلالات المزمنة في الاقتصاد، وكيف للمديونية ان تتزايد دون توقف ولعجز الموازنة ان يُحكم قبضته على السياسة المالية، وكيف للبطالة ان تكتسح نصف الشباب القادرين على العمل. هذا الى جانب الخسائر التي تكبدها الأفراد والشركات منذ بداية الأزمة.
منح وقروض ومساعدات ومشاريع بمليارات الدولارات وعدت بها مؤخرا الولايات المتحدة والبنك الدولي ودول ومنظمات أخرى لدعم الأردن في استيعاب التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا. لكن هذا لا يمكن أن يكون، بأي حال، كافيا لإنعاش الاقتصاد او الإبقاء على مؤشراته دون تراجع.
محاذير فقدان الثقة بين الحكومة والناس والأزمة الاقتصادية وضغوط النظام الاقليمي الجديد، تنبه الأردن الى ضرورة البدء بالاصلاح الشامل سياسيا واقتصاديا، الى جانب السعي الى ما يشبه "خطة إنقاذ مالي" قد تتبناها دول الخليج بدعم اميركي او اوروبي وتقوم على ضخ استثمارات ورؤوس أموال وتوفير فرص عمل تتيح للأردن التقاط انفاسه من الأزمة الخانقة.
يمثل ذلك حاجة أردنية ملحة الآن لمواكبة التحولات في المنطقة وتقوية "الجبهة الداخلية" والخروج بأقل الخسائر من أزمة كورونا، إذا أرادت المملكة ان تتجنب مصير الثقب الأسود الذي يبتلع الأموال دون جدوى وتتوه فيه الأزمات بلا حل وتختفي معه الأدوات القديمة في إدارة السياسة الخارجية للبلد.