لا تزال الهجرة إلى أوروبا طريقا باتجاه واحد

يضحك المرء على نفسه حين يصدق أن الأسباب التي دعت الصوماليين والعراقيين والسوريين واللبنانيين إلى اللجوء قد انتفى تأثيرها ولم تعد واقعا لمجرد أن الأوروبيين يقولون ذلك.

أحيانا يبالغ الأوروبيون في مشكلات الهجرة في محاولة منهم لتبسيط أسباب أزماتهم الاجتماعية والاقتصادية وألقاء المسؤولية على الآخر. ولأن المهاجرين هم الجهة الأضعف التي لا يدافع أحد عنها، يسهل دائما وضعها في قفص الإتهام. ولكن تلك المبالغة ليست قابلة للتعميم دائما. هناك قوى سياسية أوروبية لا تنظر بطريقة كئيبة إلى مسألة الهجرة. ذلك لأنها تضع نصب عينيها حقيقة شيخوخة المجتمع الأوروبي وهو ما دعا إلى اعتماد مصطلح "القارة العجوز" كما أن المهاجرين في حقيقة وضعهم التفاعلي لا يمثلون دائما عبئا ثقيلا على دافعي الضرائب كما يُشاع. المهاجرون يدفعون الضرائب أيضا وهم يخدمون مجتمعاتهم الجديدة من خلال أعمالهم التي تتدرج من المواقع الرفيعة وصولا إلى المواقع التي غادرها الأوروبيون بمحض إرادتهم. لذلك يمكن النظر إلى سياسات التضييق على الهجرة غير الشرعية على أساس كونها حق يُراد به باطل. هي حق سيادي تمارسه الدول على أراضيها وهي باطل حين يُعتبر اللاجئون الباحثون عن الأمان هربا من خراب بلدانهم الذي ساهمت أوروبا فيه عبئا اقتصاديا ثقيلا. وقد يضحك المرء على نفسه حين يصدق أن الأسباب التي دعت الصوماليين والعراقيين والسوريين واللبنانيين إلى اللجوء قد انتفى تأثيرها ولم تعد واقعا لمجرد أن الأوروبيين يقولون ذلك.

منذ صعود قوى اليمين المتطرف وفي مقدمتها حزب "ديمقراطيو السويد" إلى الحكم في السويد ولا حديث إلا عن خطر المهاجرين على التركيبة الاجتماعية والبنية الثقافية في بلد شاسع لا يزيد عدد سكانه على العشرة مليون. ولكن المخاوف كلها هي جزء من أجندة سياسية مذعورة هي جزء من العودة إلى الحرب الباردة التي صارت مصدر إلهام لسياسي اليمين الجدد الذين باشروا بتهيئة مساحات أرض قريبة من الكنائس لتكون مقابر لقتلى الحرب القادمة مع روسيا بعد أن وزعوا كتيب عن الحرب المقبلة. هذه هي العقلية التي تدير ما يمكن أن أسميه بالحرب على المهاجرين الذين صاروا بفعل التقادم مواطنين سويديين. ومما يزيد الأمر سخرية أن الحكومة السويدية من خلال وزير الهجرة فيها صارت تطالب حكومات دول الإتحاد الأوروبي بتعديل قوانين الهجرة فيها. وهو ما يعني أن على ألمانيا التي استقبلت مليون لاجئ سوري مرة واحدة أن تستمع إلى النصائح السويدية.

من الصادم أن تكون السويد وهو البلد الذي عُرف بحياده ونظامه في الرعاية الاجتماعية المثل الأسوأ بين بلدان اللجوء. ذلك كما قلت مرتبط بالتحولات التي شهدها المزاج السياسي حين تغيرت تركيبة الحكم ولا علاقة له بأحوال المهاجرين. وفي الغالب فإن فشل سياسة الاندماج وهو أمر تتحمل الجهات الحكومية المسؤولية عن الجزء الأكبر منه فد أدى إلى عزل فئات عديدة من السويديين الجدد. ذلك العزل كان بالضرورة سببا في وقوع العديد من الانحرافات التي صنعت صورة قاتمة عن مجتمع جريمة منظمة يُقال علنا إن الشرطة غير قادرة على تفكيكه بالرغم من أنها تزعم أنها قد اخترقته.

على جانب آخر من الصعب إنكار أن السوريين اللاجئين الذين يفوق عددهم المليون نسمة صاروا جزءا من القوة العاملة في ألمانيا وصار صعبا بالنسبة للدورة الإقتصادية الإستغناء عنهم ولن تفكر سلطات الهجرة هناك في تقديم إغراءات مادية لهم من أجل تشجيع عودتهم الطوعية إلى سوريا مثلما فعلت في أوقات سابقة الدنمارك والسويد. السوري هو آخر المهاجرين غير الشرعيين إلى ألمانيا غير أنه يقف اليوم في مقدمة طليعة المهاجرين النافعة. هناك مدن وبلدات في ألمانيا صارت تقدم للسوريين إغراءات في السكن والمساعدات والتعليم من أجل أن تجتذبهم وإذا ما كانت هناك أصوات يمينية تسعى إلى التشهير بالمهاجرين فإنها ليست أصواتا فاعلة أو مؤثرة.

سيحسبني البعض متفائلا إذ أنقل صورة وردية عن أحوال المهاجرين. الأمر ليس كذلك. فالمهاجر إنسان مقتلع، يعاني ألم الحنين إلى حياة كان قد عاشها على أرضه من غير أن يجرؤ أحد على سؤاله "من أين أنت؟" ذلك وحده يدعو إلى الإحباط. كما أن الحروب الأهلية التي شهدها العالم العربي عبر العشرين سنة الماضية كانت قد صدرت إلى أوروبا جرمين ولصوصا وسفاحين وقتلة وحملة أفكار رديئة عن الحياة وسط مئات الألوف من الأبرياء الذين كانوا ضحايا لمشروع الحرب الدائمة التي رعتها المخابرات الغربية وكان لفكرنا السلفي إسهام كبير فيها. نعم ينبغي الاعتراف بحقيقة أن هناك جلادين وقتلة وتجار مخدرات وخبراء في الإتجار بالبشر قد أندسوا بين صفوف اللاجئين الذين تحولوا بفعل الإقامة القانونية إلى مواطنين جدد. ولكن ذلك كله لا يستدعي تغيير قوانين الهجرة التي وُضعت لأسباب إنسانية مطلقة.