لا يمكن أن نتصوّر العالم برأس واحدة

أصيل الشابي: كوفيد 19 زجّ بنا في قلب العالم الافتراضي بهذا الشكل غير المسبوق، وحياتنا ستتغيّر كثيرًا من هنا فصاعدًا.
البشرية تتحول من علاقات الحلف الواحد والجغرافيا الواحدة، إلى العلاقات البينيّة
في زمن الكورونا:  يطلّ الناس على بعضهم البعض عبر حواسيبهم
الشابي يعتقد أنّنا نملك اليوم ثقة بالنفس أكبر من أيّ وقت مضى، بل لعلّ عقدة النقص في علاقتنا بالغرب قد انحلّت بشكل ملحوظ 

من ينظر إلى العالم في ظلّ هذا الوباء يرى أقوى الدوّل الصناعيّة تتخبّط في مواجهته، فما بالك بالدول الضعيفة، لقد بدأ الأمر في الصّين وانتشر بسرعة وتفاقم في إيطاليا وانتشر بعد ذلك بسرعة إلى جميع الأقطار تقريبا، هذه السرعة من المفروض أنّها تعني أيضا أنّ الوضع البشري في إطار العولمة يمكن أن يكون أخطر ممّا كانت عليه المجتمعات قبل العولمة، فأنت ترى أنّ الأزمات سرعان ما تشتعل في كلّ أرجاء المعمورة. 
هذا ما يؤكده الناقد والمترجم التونسي البارز الدكتور أصيل الشابي، الذي يضيف قائلا: صحيح أنّ الأوبئة لها تاريخ طويل، ولكنّه يعتقد أنّ هناك تحدّيات علميّة طرحت اليوم على الإنسان بشكل أقوى، فإنجازاته التي راكمها أصبحت مهدّدة مع تعليق الرحلات، ودخول الاقتصاد في حالة شلل، وإغلاق المدن بالشرطة والجيش، وربّما علينا أن ننظر اليوم إلى خطورة أحاديّة القطب الواحد، إنّه توجّه يتناقض تمامًا مع مبدأ التعددّ الثقافي والفكري الجوهري، لا يمكن أن نتصوّر العالم برأس واحدة لأنّنا نشاهد اليوم في التلفازات كيف تطلب الولايات المتّحدة مساعدة الصينيين، ونشاهد الأطبّاء الصينيين والكوبيين يحملون المساعدات لدولة متوسطية هي إيطاليا التي عزلتها أوروبا، وفرضت عليها بشكل من الأشكال حصارًا قاسيًا كما لو أنّها دولة معادية! 
هذا التحوّل من علاقات الحلف الواحد والجغرافيا الواحدة إلى العلاقات البينيّة الأكثر اتّساعًا التي لا تقيّدها الأعراق أو المعاهدات السيّاسيّة والتجاريّة، جعلنا نكتشف أهميّة الأنسنة في كسر الوباء والتصدّي له، إنّه ربّما للمرّة الأولى التي يهبّ فيها المحاصرون - ويعني بهنا الكوبيون - إلى نجدة الضحايا فيما حاصرت الدول القويّة نفسها بتدابير وقائيّة غير مسبوقة جعلتها عالقة في الدّاخل.

البرازيل دولة كبيرة وقد مرّت بتجربة تنمويّة فيها الكثير من المشاكل والأزمات، وعلينا أن نفيد من الدروس حتى ننجح.

ويتساءل أصيل الشابي - بينه وبين نفسه - عن مصير مفهوم الفرد الذي تضخّم في فكر المجتمعات الغربيّة وما تعلّق به من "نيو ليبراليّة" متوحّشة وما أنتجه من سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة متطرّفة لا تهتمّ بالطبقات الوسطى والمهمّشين من اللاّجئين والمهاجرين وغيرهم.
 لقد صوّرت الكاميرات في السنوات القليلة الماضية الاحتجاجات الجماهيريّة الواسعة على غلاء المعيشة، وضعف التأمين الاجتماعي أو انهياره وصولًا إلى تسييج الدول وتحصينها، يمكن لأي شخص أن يتذكّر - والأمر ليس ببعيد - حركة القمصان الصفر في فرنسا وشبيهاتها في بلجيكا ودول أوروبيّة أخرى.
 لقد تحوّلت هذه المجتمعات اليوم إلى وضعيّة الحجر الصحّي الجماعي، وذاب مفهوم الفرد بشكل مذهل لصالح الخطاب الجماعي على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي التلفازات، وعلى ألسنة الساسة، وها هي الدولة تعود إلى مربّع الشعب وتأخذ على عاتقها مبدأ الحماية الكامل لمواطنيها تفاديًا للانهيار بما في ذلك انهيار الفرد.
ويفكّر الشابي في مفهوم العولمة، وهل هي مجرّد سيطرة ينجزها المركز القويّ الثريّ في الغرب؟ يفكّر في عالمنا العربي الضائع في هذه المتاهة العالميّة، فهناك تحدّيات كبيرة تبزغ في كلّ حين، اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة، ولا بدّ من امتلاك مخطّطات كبيرة وعلى مدى طويل لمجابهة المستجدّات.
كما يفكّر أصيل الشابي في العوامل التي تجعل مجتمعاتنا منخرطة حقيقة في حاضرها وغير مغيّبة.
 لقد علّمتنا هذه الأزمة الكونيّة أنّ النبوغ الفردي في العالم العربي قيّم.. في محيط  يحارب الطلبة وأساتذتهم في المخابر، والباحثون والأطبّاء بدرجة أولى، وعمّال النظافة، وكذلك العاملون في الصّحافة، والمثقّفون والرياضيون، والأمّهات المدهشات لإنقاذ حياة الناس.. المهندسون أمدوا الأطبّاء بأجهزة تنفّس، وأمدّوا الشرطة بالربوت الذي يطبّق الحجر الصحّي.

corona
كيف نغيّر المستقبل بتعديل العالم؟

ويعتقد الشابي أنّنا نملك اليوم ثقة بالنفس أكبر من أيّ وقت مضى، بل لعلّ عقدة النقص في علاقتنا بالغرب قد انحلّت بشكل ملحوظ. 
وهذا يقود بالطبع إلى أهميّة تفعيل التنمية من الداخل، من نواة قويّة وطنيّة تحضنها المؤسّسة العموميّة تحديدًا لأنّها المؤسّسة التي تحمل المشروع الوطني دون غيره.  
ويرى أصيل الشابي أن مثل هذه الظروف تقود إلى كتابة لها طابعها الخاص ولاسيّما من الناحية المضمونيّة، وبالفعل فقد أعاد كوفيد 19 القرّاء إلى رواية "الطاعون" لأندري جيد، وقرأ بعضهم كتاب "الديكامرون" لبوكاتشيو، أو رواية "مائة عام من العزلة" لجابرييل غارسيا ماركيز. ومن ناحيته هو فقد جذبته رواية مدهشة لإليخيو كاربنتير بعنوان "الخطوات الضائعة" التي عرّبها سالم شمعون، وهي رواية تدعو الإنسان إلى مواجهة تاريخه وواقعه، وتحرّضه على عدم الرضا بانقسام العالم إلى هذه الأعلى الأسفل المعطاة مسبقا والمسلّم بها، يهرب بطل الرّواية من الحضارة إلى عالم بدائي نقيّ وفطري، إنّه ينعزل عن ضجيج الحياة.
كما يقرأ أصيل الشابي على الحاسوب نصوصًا جديدة تستلهم اللّحظات الحاليّة، والأكيد أنّها ستصدر بعدئذ في كتب.
وفي الأدب التونسي، يشير الشابي إلى أننا يمكننا أن تقرأ في رواية "برق الليل" للبشير خريّف عن الخوف، وهول الحرب، وانعزال البطل عن الأحداث لمّا تشتدّ وتيرتها، ففي هذه الرواية ترتسم خلفيّة الحملات العسكريّة التي استهدفت تونس من الإسبان والعثمانيين، كانت العزلة، في نظره، محورًا مهمّا من محاور السرد، وتكوين الشخصيّة الروائيّة التي قفزت على الآلام والدماء متجّهة بكلّ قوّة نحو الحريّة.
وهو يقرأ كذلك كتابًا شعريّا رحليّا بعنوان "نصوص من الصين" كاتبها محمّد بوحوش، وقد ذكّره هذا الكتاب بكتاب "الصين الحديثة" للطاهر قيقة، وهو أيضًا رحلة، وقد وجد الشابي فيه متعة الكاتب المنعزل عن محيطه. لكنّ العزلة ربّما كانت أظهر في شعر أبي القاسم الشابي، وهي تبعة تمرّده على السائد؛ كان الشابي رومانسيّا من طراز عالي، وهؤلاء الرومنسيون كما شرح جورج غيسدورف لهم صوت فردي قويّ ينطلق صوب كلّ الأرجاء لأنّ فكرهم ووجدانهم مرتبط بأصالتهم وأعماقهم. نوع من الخلوة، وهذا هو السبب الذي يجعل الشابي يرتحل باستمرار في الجغرافيا.
عدا عن هذا في كتب الرحلة العربيّة والأوروبيّة مقاطع مهمة عن الحجر الصحّي أو "الكرنتينة" التي كان يخضع لها من يزور أوروبا، قرأ أصيل الشابي عن هذا في "رحلة من موغادور إلى بسكرة" التي كتبها الرحّالة البلجيكي جيل لو كليرك.
وقد وجد أصيل الشابي نفسه في وضع يلزم بعدم الحركة والتنقّل، رغم أنه محبّ للسفر، يتنقّل كلّما وجد متّسعًا من الوقت لاكتشاف أماكن جديدة، والاطلاع على الثقافات المحليّة وجذورها، كما أنّه يعشق الطبيعة، ففيها طاقة عظيمة لا يستطيع الإنسان أن يحيا دونها. في هذا الوقت من الممتع مراقبة حركة الطيور، واكتساء الأشجار في مدينته الموريسكيّة المعروفة بالرمّان والمشمش وبأثوابها الخضراء الزاهيّة. لكنّه، رغم هذا، يحرص على القيام بنزهة يوميّة خالصة للتمتّع بجمال المكان، من "مقهى البطحاء" حيث "جامع الثغري" الفخم وصومعته الفاتنة بساعتها الكبيرة التي تدور عقاربها عكس عقارب الساعة العادية، مرورًا بالبلدة العتيقة، وصولًا إلى البساتين على "وادي مجردة". 
نعم كلّ حالة لا تخلو من إيجابيات كأن يتأمّل المرء وجوده في زمن استثنائي يشعر فيه أنّه معلّق بين الحياة والموت، ولكنّ "تستور" عاصمة "المالوف" أو الغناء والموسيقى الأندلسيّة، ترنو دائمًا إلى المجالس في "مقهى البطحاء" تحت أشجار النارنج، أو قرميد الموديخار.
ويرى الدكتور أصيل الشابي أن التكنولوجيا مهمّة ومصيريّة اليوم فنحن نحيا في العصر الرّقمي بامتياز، ولهذا كان منتظرًا أنّ يطلّ الناس على بعضهم البعض من حواسيبهم. 

ولا يستطيع أحدهم إنكار أن التكنولوجيا أنقذت التواصل بين الناس، ولكن أيضًا لولا التكنولوجيا التي ربطت العالم، وصنعت العولمة من الأساس لما كان للأزمات هذا الصوت المدوّي، إنّها معادلة دقيقة أن يرشّد الإنسان اليوم استخدام التكنولوجيا في البيت والشارع والمدن وفي كلّ مكان. 
وهذا الحديث يذكّر أصيل الشابي بكتاب أرسله له صديقه الباحث البرازيلي فرناندو ألكوفورادو وعنوانه "كيف نغيّر المستقبل بتعديل العالم"، وقد بسط فيه في ضوء الأزمات الحادّة التي يشهدها العالم اليوم ثلاثة أسس لتنمية حقيقيّة في المستقبل هي: التطوّر الاقتصادي، والاجتماعي، والاستدامة البيئيّة، والسلام العالمي، وهذه شروط نجاة الإنسان مستقبلًا.
ويعتقد أنّ البرازيل دولة كبيرة وقد مرّت بتجربة تنمويّة فيها الكثير من المشاكل والأزمات، وعلينا أن نفيد من الدروس حتى ننجح.
ويعتقد أصيل الشابي - بعد كلّ شيء وقبله - أنّ كوفيد 19 زجّ بنا في قلب العالم الافتراضي بهذا الشكل غير المسبوق، وأنّ حياتنا ستتغيّر كثيرًا من هنا فصاعدًا.