
لبّ الجمال الخطي في لوحة الخطاط الأردني رفعت محمد بوايزة
بين النصّ والخط تصب العديد من القيم الفنية والجمالية في هذا العمل، فهو يتجه إلى مناحي دقيقة في صياغته المضامينية أو في صياغته الخطية سواء ما تعلق منها بالحرف في ذاته أو بعملية التركيب. فالحمولة المضامينية لأبيات شعرية من قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي التي عارض بها قصيدة البردة للبوصيري حاضرة في تفاصيل هذا العمل مقرونة بجمال الأشكال الخطية والمفردات الفنية. ويمكن القول بأن الخطاط البارع رفعت بوايزة قد رسخ مقومات العمل الخطي الذي يتأسس على الحيادية والدقة العالية والتقنية الكبيرة في معالجة مختلف المواضيع، وهو من خلال هذا العمل قد أظهر المضمون وفق مسلك فني وبلاغي، ووفق تركيب متوالي ومتزن ينبض بالمؤثرات الجمالية. وهو وعيٌ بخاصيات التركيب وبثنائية اللون المطلوبة التي تتناسب وتصوراته الفنية ورؤاه المعرفية وحسه الإبداعي وذوقه الرفيع.
لذلك، يأتي هذا العمل ليبرز الجهاز المضاميني والأساس الجمالي للتركيب الفني الذي يخدم الرؤية الممزوجة بلب المعالم الثقافية العربية الإسلامية؛ فيغوص في حضرة النص الخطي بكل مقوماته الحضارية في نطاق تعبيري وإيحائي ودلالي، من حيث شكله البنائي، ومن حيث ثنائية اللون التي لها أهمية كبرى، ومن حيث التكوين الجمالي الذي يرصد السمات الفنية العديدة التي تتوفر في هذا العمل، والتي تنبني على التوازن وعلى عدّة مقومات قاعدية تخص الخط العربي. بتوظيفاته الدقيقة التي تُظهر سحرية الأداء، ونقاء الملمس والاعتناء بقيم السطح؛ ما يجعل العلاقة القويمة بين الإشارة الخطية والموضوع تتخذ مسارا إبداعيا وفق المرجعيات المنبثقة من الثقافة العربية الإسلامية ومن الموروث الحضاري العربي، ليظهر جليا الاتجاه الجاذب في هذا العمل الذي يحمل فلسفة خطية متفردة، ويعتبر أنموذجا خطيا غاية في الروعة، خاصة وأنه مقرون بالقواعد الصارمة والضوابط اللازمة، ومنمق بالزخارف البهية، ليُشكل فضاء إبداعيا خارجا عن المعتاد، بطقوسه التعبيرية وسماته الجمالية التي سمت في هذا العمل إلى صفوة الذروة الفنية، وذلك بما حمله من تركيب خطي بديع، وصيغ بنائية معاصرة، وأسلوب خطي يروم عوالم فنية جديدة تُوجّه الطريقة التعبيرية، وتقود إلى جعل التراث الحضاري العربي الإسلامي مجالا إبداعيا حيويا متجددا. ويتبدى أن الثنائية اللونية وخاصياتها الجمالية تؤشر على تطويع الفضاء للحرف واللون، في نطاق تناسقي تظهر فيه الحركة، ويبدو فيه الإيقاع متوالفا مع الشكل والخط والزخارف الأصيلة، إذ تشكل جميعها مسلكا إبداعيا بديعا، بما يتوافر فيه من الصفات الشكلية والتركيب الفني المتقن. وهو ما ينم عن التقنيات العالية التي تم توظيفها في هذا العمل الذي يشكل رؤية فنية معاصرة تتخطى المستهلَك وتُحدث لمسة تواصلية جديدة، تتقصد الخط العربي بقواعده المتعارف عليها، وتستهدف عصرنة الأسلوب من خلال طبيعة الشكل والأنساق الجمالية المتنوعة. وهو منجز خطي جمالي يقوم على رؤى جمالية وفلسفية وعلى رؤى فكرية وثقافية، ويقوم على أساس من التوظيف المنطقي للخط واللون والشكل؛ ليُطعّم المشهد الخطي العربي بقوة التركيب المنضبط، وبجماليات الأشكال المنبعثة من ثنائية اللون، ما يؤصل لهذا المسلك الفني الذي يتموقع في الفضاء بكمية خفيفة.

وبذلك ففي المنظور النقدي يبدو أن القاعدة الخطية لهذا العمل تتمأسس على قوة التركيب وبسط الشكل وفق جماليات الخط العربي على نحو من الضبط الصرامة، والالتزام بالقواعد، مع التنويع في الشكل وفي التموقع بثنائية لونية. وفي هذا المنحى نجد نوعا من التوازن الذي تفرضه الصرامة الخطية بين التراكيب التي تقوم على ميزان خطي محدد وعلى إيقاع سمفوني يتلاءم مع المادة الخطية برمتها، لتلبس حلة جمالية وبلاغية تنم قطعا عن إحداث تفاعل بائن بين التركيب الخطي واللوني في حدود التقييد الذي يُنتج في نهاية المطاف مادة خطية متحركة ذات بيان وفصاحة، وذات خصائص فنية تُؤثر بشكل مباشر في الكتل الخطية والاسترسالات وفي الأنساق الجمالية البديعة، لتحقق في لغته الخطية دلالات تُحدد مجموعة من العلائق المرتبطة بالقيمة الجمالية التي تعتبر في هذا العمل وسيلة مقطعية تغذي التجربة الخطية العربية والإسلامية بتعدد الجماليات وتعدد اتجاهاتها، وهو ما يرتبط أساسا بما تشكله التقنيات العالية من غنى، وما يشكله الخط العربي من قيمة خطية في ذاته، وقيمة جمالية في نسيج تركيباته، وهو كذلك ما يتأكد في هذا العمل من خلال الأشكال المختلفة والإيقاعات والتبادلات والنسب.. بصيغ جمالية متفاوتة الدرجات، ووفق عملية التجويد المثلى التي تتطلبها المرحلة المعاصرة، التي تروم الهندسة الجمالية التي تتحول إلى أشكال إبداعية ثم دلالية تحمل مفرداتها الفنية أبعادا فلسفية ورؤيوية؛ تُشكل في ذاتها قيمة أساسية، وفي المشهد البصري أُسّا معرفيا وجماليا وفنيا وبلاغيا. إنها سمات تلوح في هذا العمل، الذي يظل في غاية الإبداع والجمال الممتد في أفق غير محدود.