لماذا نكره الفقر والفقراء؟

ثاني أغني أغنياء العالم، كان حزينا كثيرا لأنه جاء في المركز الثاني.
ونحن أطفال لم نشعر أبدا بأننا فقراء، ويبدو لأن كلنا كنا في الهواء سواء فقراء فلم نلاحظ
على الأغنياء أن يعيشوا ببساطة أكثر حتى يستطيع الفقراء أن يعيشوا

منذ عدة سنوات قرأت في جريدة نيويورك تايمز للكاتب الأميركي الساخر الشهير آرت بوشولد مقالة، كانت في أعقاب إعلان مجلة "فوربس" الأميركية عن أغني أغنياء العالم، وكانت المقالة تتحدث عن مشاعر ثاني أغني أغنياء العالم، وكانت ثروته تقدر ببلايين الدولارات، ولكنه حزن كثيرا لأنه جاء في المركز الثاني لأنه كان يجتهد لكي يحصل على لقب أغنى أغنياء العالم، ومما زاد الطين بلة أن زوجته أخذت في توبيخه لتقاعسه عن الفوز بالمركز الأول بين أغنياء العالم، لذلك فهناك فقراء حتى بين الأغنياء.
ودائما كنت أتساءل لماذا لا تقوم مجلة فوربس بعمل مسابقة لأختيار أفقر فقراء العالم، هل لأن المنافسة سوف تكون شديدة وشرسة للحصول على لقب أفقر فقراء العالم أم لأن الفقراء لا يهتم أحد بهم؟
وأنا نشأتي كانت فقيرة في حي مصر القديمة الشعبي بالقاهرة، ولكننا ونحن أطفال لم نشعر أبدا بأننا فقراء، ويبدو لأن كلنا كنا في الهواء سواء فقراء فلم نلاحظ، واعتقدنا أن العالم كله مثلنا، ولكن بمجرد أن خرجنا خارج الحي ودخلت جامعة القاهرة وبدأت ألاحظ أن هناك ناسا آخرين لم ننشأ معهم ولم ينشأوا معنا وبدا وكأن هناك "سد عالي" يفصل بيننا وبينهم، ومن وقتها بدأت أكره الفقر والفقراء رغم أن والدي ووالدتي غرسوا في أنفسنا منذ الصغر بأن "الفقر مش عيب"، ولكنني وجدت أن الفقر عيب ونصف، وأنه حتى الفقراء لا يريدون مجاورة أو مصاحبة الفقراء أمثالهم، ولكنهم يطمحون لمصاحبة ومجاورة الأغنياء، "من جاور السعيد يسعد"، وأنا شخصيا بمجرد أن أصبح لدي من المال ما يكفيني للخروج من حي مصر القديمة الفقير أشتريت شقة في حي المعادي حيث الأغنياء.
ومن أجمل الأقوال التي قيلت عن الفقراء هي مقولة للثوري تشي جيفارا: "الذي قال بأن الفقر ليس عيبا، كان يريد أن يكملها ويقول: بل جريمة، ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحاد"!  

fine arts
الفقر هو أصل الجريمة والثورة

والفقر والغنى بالطبع مسألة نسبية، فأنا فقير مدقع بالنسبة إلى بيل جيتس، وغني جدا بالنسبة للسيدة التي تأتي لتنظيف بيتنا، وكما رأينا أن أغنى أغنياء العالم يريدون أن يظلوا في نادي البليونيرات ولا يبرحوه إلى نادي المليونيرات، وبالرغم من نسبية الفقر والغنى إلا أنه لا بد من أن نتفق على أنه يجب أن يكون هناك حد أدنى للحياة الكريمة للغالبية العظمى من سكان العالم من حيث توفر الحاجات الأساسية من مسكن ومأكل وتعليم وصحة، وعلى رأي أفلاطون عندما قال: "يجب ألا يكون بين المواطنين سواء الفقر المدقع أو الثروة المفرطة لأن كليهما ينتج شرا عظيما" وبالمثل قال أرسطو: "الفقر هو أصل الجريمة والثورة".
والفقير ليس بالضرورة تعيسا والغني ليس بالضرورة سعيدا، ولكن الغالبية العظمى من الناس تؤمن بأن تكون تعيسا وأنت غني أفضل كثيرا من أن تكون سعيدا وأنت فقير، وهناك قصة لست أدري ما أصلها، ولكن أكيد أن من روّج لها كان يروج لفكرة أن "الفقر ليس عيبا":
"يحكى أن نزل رجل أعمال غني في فندق جميل على شاطيء البحر، وكان يصحو كل صباح للتمشية على الشاطيء، ويوميا كان يراقب رجلا يصطاد سمكا من البحر، وبمجرد أن يصطاد سمكتين فقط يأخذ السمكتين ويغادر المكان، واشتد فضول رجل الأعمال الغني، فتوجه يوما إلى الصياد ودار بينهما الحوار التالي:
- صباح الخير، إعذرني لتطفلي عليك، ولكني منذ عدة أيام أراقبك وأنت تصطاد سمكتين فقط ثم تغادر الشاطيء، ما الحكاية؟
- الحكاية بسيطة أنا أسكن في بيت بسيط أنا وزوجتي فقط، ويوميا نأكل سمكتين وهذا هو كل ما نحتاج إليه.
- طيب دعني أسألك، لماذا لا تصطاد أكثر؟
- لماذا؟
- لكي تبيع الفائض عن حاجتك.
- ثم ماذا؟
- ثم تتوسع وتقوم بتأجير صيادين آخرين يساعدونك؟
- ثم ماذا؟
- ثم تفتح محلا لبيع الأسماك؟
- ثم ماذا؟
- ثم تصبح غنيا وتعيش مبسوطا.
- ولكني مبسوط الآن!!
لذلك فإن الكاتب الأميركي مارك توين قال: "الأغنياء الذين يعتقدون أن الفقراء سعداء أكثر غباء من الفقراء الذين يعتقدون أن الأغنياء سعداء".
وأذكر خالتي الراحلة أم محمد، والتي جاءت من قريتها لتعيش عندنا في القاهرة بعد وفاة زوجها حيث لم يكن لها أهل سوانا، وكانت غاية في الفقر، لم تدخل مدرسة وكانت تسكن بيتا مبنيا بالطين من غرفة واحدة، ولكنها لم تكن أبدا تعرف أنها فقيرة وكانت مبسوطة وتضحك طوال الوقت وكانت بنت نكتة تحب المرح والفرح، ويوما سألتني: "ألا قل لي يا سامي هي الألف جنيه فيها كم عشرة جنيه؟؟" لأن مبلغ العشرة جنيه كانت أقصى ما تعرفه في حياتها المالية حتى أنها لم تتعرف على العشرة جنيهات حتى جاءها معاش الضمان الإجتماعي وكان معاشا يعطى للمعدمين والذين ليس لديهم أي دخل، وأطلق عليه وقتها "معاش السادات".
وبالطبع من الأمور التي تصبر الفقراء على فقرهم هو أن الأديان في معظمها تعدهم بالجنة حيث الأكل والشرب والراحة والحور العين بلا حساب خالدين فيها أبدا، أما لو ثبت أن عشم الفقراء في الجنة هو عشم إبليس في نفس الجنة، يكون مقلبا كبيرا! ونظرا لإقتناع معظم الفقراء بأن مصيرهم هو الجنة تجد أن دور العبادة تنتشر بكثرة في الأحياء الفقيرة. وصبر الفقراء على أحوالهم عشما في دخول الجنة كانت أحد الأسباب التي منعتهم كثيرا من الثورة على أوضاعهم، لذلك قال كارل ماركس مؤسس الفكرة الشيوعية "الدين أفيون الشعوب".
أقرأ حاليا كتابا عن نشأة وحياة الإنسان الأول وحياة إنسان الكهف، وأخذت أبحث بين صفحات الكتاب كيف نشأ الفقر وكيف نشأ الغنى، لأن إنسان الكهف كان يعيش على الصيد لذلك كان هناك في البداية مساواة إلى حد ما، طبعا إنسان الكهف الأقوى كان يصطاد أكثر من الإنسان الضعيف أو المريض، وأتخيل أن إنسان الكهف القوي بدأ يقايض الضعفاء على ما لديه من فائض الغذاء، كأن يقول القوي للضعيف: إذا سلفتني امرأتك لمدة يومين وسوف أعطيك الفرخة التي قمت بإصطيادها أول أمس!! وطبعا الفقير في الغالب يفرح بهذا الإقتراح لأنه سيرتاح من امراته لمدة يومين ويفوز بالفرخة في نفس الوقت بدون تعب الصيد!

وعندما بدأ إنسان الكهف يتجه للزراعة وتربية الحيوان للأكل والعمل وتخلى عن الصيد بدأت الفوارق بين الناس، الأقوياء إستطاعوا إحتكار الأراضي الصالحة للزراعة وبدأوا في أحتكار مصادر المياه، وبعد فترة توقفوا عن العمل وبدأوا في تشغيل الضعفاء لديهم، ومن هنا نشأ الفرق في الثروة، ولم يكتف الأقوياء بالإستيلاء على الأراضي ولكنهم بدأوا في تأسيس المقاطعات والممالك والقلاع لحماية أملاكهم وتوسيعها، لذلك فلا شك عندي بأن معظم الملوك والفراعنة كانوا في الأصل قطاع طرق ورؤساء عصابات للإستيلاء على الأراضي، والأنكى من هذا بأن الأقوياء لم يكتفوا بالإستيلاء على الأراضي ومصادر المياه وتأسيس الممالك وتملك العبيد، ولكنهم بدأوا في فرض ضرائب على الفقراء الذين يعملون بالزراعة أو على صغار التجار الذين ظهروا في مرحلة ما بعد الزراعة، وبالطبع لم يجمعوا الضرائب لإعادة توزيع الثروات، ولكن هذه الضرائب كانت تجمع لتمويل بناء جيوش وأساطيل للإستيلاء على مزيد من الأراضي وتوسيع الممالك، ثم حدث التحالف بين الملوك ورجال الدين الذين جاءوا لتبشير الفقراء بالجنة للحفاظ على الأوضاع كما هي، الأغنياء لهم الدنيا والفقراء لهم الآخرة ويبدو أنها توزيع عادل، بل إن الفقراء لهم الأفضلية لأن حياة الجنة هي حياة الخلد لا يوجد فيها فقر أو مرض أو موت.
واستمرت الأمور كما هي حتى الآن بل وتزداد بشاعة حيث يزداد الأغنياء غنى، ويزداد الفقراء فقرا، ومن حين لآخر يثور الفقراء على فقرهم مثلما حدث في الثورة الفرنسية والثورة البلشفية في روسيا، ولكن حل محل الأغنياء والقياصرة طبقة أخرى من البيروقراط والسياسيين بالتحالف مع رجال الأعمال.
والجريمة في معظم الأحيان ترتبط بالفقر، فتجد أن الجريمة في الأحياء الفقيرة تنتشر أكثر من الأحياء الغنية، هذا حقيقي إلى حد كبير، ولكن يجب أن نعرف بأنه ليس كل الفقراء مجرمين وليس كل الأغنياء قديسين، ولكن يبدو بأن لدى الأغنياء محامين أفضل!
في الأسبوع الماضي دار بيني وبين ابنتي الصغيرة حوار في أعقاب أشتراكها في المظاهرات الضخمة الأخيرة التي حدثت في نيويورك، عندما قلت لها: "أن الفقر هو اختيار شخصي" رفضت كلامي وقالت لي: "هذا غير صحيح، الإنسان يولد فقيرا أو غنيا"، فإقتنعت بكلامها وقلت لها: "أنا موافق معك، ولكن الفقير يستطيع الخروج من دائرة الفقر لو كانت لديه الإرادة الكافية، ولدينا حول العالم نماذج لفقراء تحولوا من الفقر المدقع إلى الغني الفاحش". وبدون أن تتقلص الهوة بين الأغنياء والفقراء فلن يكون هناك سلام إجتماعي في المجتمع، وكما قال عمنا نجيب محفوظ في رواية الحرافيش: "كيف يتسنى للحب والسلام أن يعيشا بين الفقر ونبابيت الفتوات".
والحل ببساطة هو ما قاله غاندي: "على الأغنياء أن يعيشوا ببساطة أكثر حتى يستطيع الفقراء أن يعيشوا".