ليست عندنا شاعرة أولى.. وشاعرة أخيرة

الشاعرة التونسية.. ابنة الكاف تعترف: أنظر إلى مؤلفاتي بكثير من الصرامة ونكران الذات!
الكتاب وظل وثيقة تاريخية تؤرشف للذاكرة الشخصية والجماعية. وهو الذي يجعلك تتطلع متى شئت في تؤدة على الأعمال الخالدة كتابة القصيدة أصعب من قلع ضرس على حد تعبير الفرزدق
محمود المسعدي يعد علمًا من أعلام الفكر والثقافة في وطني، حتى إن الدكتور طه حسين قد أعجب به وبكتاباته

المبدعة التونسية مليكة العمراني شاعرة وقاصة وناقدة. تعيش في تونس العاصمة، إلا أنها تنحدر من منطقة جبلية بديعة في الشمال الغربي التونسي هي "الكاف" التي أنجبت المطربة التونسية الرائدة صَلِيحة، كما أنها المدينة التي تشتهر من بين المدن التونسية باهتمامها بالمسرح وبمهرجاناته التي اكتسبت سمعة دولية.
وعنها تقول ضيفتي مليكة العمراني: الكاف هي أصلي وجذوري، وأنا أنحدر من أصول كافية؛ وهي مدينة جميلة، وهي مسقط رأس والدي، وتشتهر بجبالها الخلابة وفلاحتها، وقمحها وشعيرها. وهي بلد الفنانين والمثقفين والشعراء، ومنها ينحدر فنانون كثيرون، وفيها أسس رجالات ونساء المسرح فرقا مسرحية، إضافة إلى أنها اشتهرت بتراثها الغنائي والموسيقي الأصيل.
أقول لها: ولكن للكتاب مكانة عزيزة عندك، كما نرى من خلال ما تنشرين من آراء وآخرها ما جاء قبل أسبوع على حسابك على الفيسبوك من أنك بصدد إصدار كتاب أنفقتي عشرة أعوام في إعداده، فترد قائلة: بطبيعة الحال ما زلت مؤمنة بدور الكتاب شديدة الإيمان حيث أن النص المكتوب يدوِّنه التاريخ، وهو شاهد على العصر، وحافظ لأفكار الشعراء والكتاب.
 ويظل الكتاب وثيقة تاريخية تؤرشف للذاكرة الشخصية والجماعية. وهو الذي يجعلك تتطلع متى شئت في تؤدة على الأعمال الخالدة.
 والحقيقة أن هذا الرأي يعود بنا إلى حركة التدوين التي نشأت عند العرب في عهد الدولة الأموية وبلغت أوج تطورها في عهد الدولة العباسية حيث تطورت حركة الترجمة والتأليف بفعل النص المكتوب، كما تم تدوين النص القرآني وبسطه للعموم.
 وأنا ما زلت أؤمن بدور الكتابة كحل جذري وحقيقي للخروج من الجهل والتخلف. 

أحاول أن أعيش ما تبقى من حياتي في هدوء قريبة من ذاتي، ومن خالقي؛ فالعمر قصير وعلينا أن نفيد منه على أفضل ما يرام

ولذلك فإن الأمم المتقدمة لم تتطور إلا به وبأهمية علمائها ومثقفيها الذين يعدون المفخرة الحقيقية للشعوب؛ فهم يعلِّمون الأجيال الفكرة والحرف والموقف السليم السوي والصدق في القول والإخلاص في العمل، ولذلك فأنا أفضل دائمًا أن تكون نصوصي مكتوبة وموثقة حيث أنشر إنتاجي الشعري والقصصي والنقدي في الصحف والمجلات المختصة حتى يفيد منها القراء وعامة الناس.
 كما أنني حريصة أشد الحرص على نشر إنتاجي في كتب تبقى في الخزينة حتى تفيد منها الأجيال وعامة الشعب، وهذه وظيفتي الأساسية كمربية ومثقفة وأستاذة.
وأسألها كيف تنظر لمدونتها القصصية والشعرية بعين الناقدة؟ فتجيب: أنظر لمؤلفاتي بكثير من الصرامة ونكران الذات؛ فالكتابة هي موقف من الوجود، وهي طريقة مهمة وجميلة للإقامة على هذه الأرض، ولذلك فأنا قاسية جدًا مع نفسي، أطالبها دومًا بالعمل الجدي وبالمزيد من الاشتغال على النصوص، فأنا أعتبر أن حرفة الشاعر والكاتب هي مهنة المتاعب والمصاعب حقًا، كما أنها رسالة فنية ووجودية. ولكن في الوقت ذاته الشاعر والكاتب له من التواضع والمسؤولية والموضوعية الشيء الكثير فهو يترك المجال لغيره حتى يحكموا عليه ويقيموه، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يقيم نفسه حتى لا يقال إنه مجامل أو يحابي ذاته؛ فمهمة الكاتب الحقيقية هي الكتابة والاكتفاء بالاستماع إلى آراء أولي الأمر والمختصين.
ولكن بحكم تخصصي الدراسي في اللغة والآداب العربية، وتبحري في مجال الأدب فأنا أكتب دراسات علمية وأكاديمية جامعية وإبداعية أقيم من خلالها النصوص الإبداعية وفق معايير علمية ويشرف على بحوثي العلمية النقدية أساتذة متخصصون في الأدب من الجامعة التونسية، وهم يؤطرون هذه الأبحاث ويقيمونها.
وبالإضافة إلى ذلك فأنا أعتمد على نفسي في البحث العلمي والكتابة الجادة حيث ألزم المكتبات وأخصص وقتًا طويلًا لكتاباتي وأبحاثي الإبداعية والأدبية، محاولة قدر المستطاع أن أنوّع في كتاباتي شعرًا ونثرًا ونقدًا.
وأضع أمامها سؤالًا ليس من السهل الإجابة عنه وهو: مَنْ يمكن أن يكون كاتبك المفضل؛ محمود المسعدي، أم البشير خريف؟
وأطلب منها توضيح الأسباب. فتقول: تخيرني بين كاتبين من أهم كتاب تونس، ومَنْ منهما أفضل، وفي الحقيقة يعتبر محمود المسعدي والبشر خريف من أفضل كتاب تونس على مدى الزمن، فلكل منهما أسلوبه المميز وطريقته الخاصة في الكتابة، ولكن قد أرجح كفة للأستاذ محمود المسعدي لسبب بسيط وهو أن كتاباته رافقتني في فترة دراستي في الباكالوريا، وهي عندنا شهادة وطنية تمكننا من الانتقال إلى مرحلة الدراسة الجامعية، فقد رافقتني كتابات المسعدي في تلك المرحلة من دراستي، ومن عمري، حيث كنت أدرس كتابه "السد" الذي وجدت فيه عمقًا وجوديًا كبيرًا ولغة متينة قريبة من النص القرآني، ومن فلسفة ووجودية متأثرة بالفلسفات الغربية، أو بكتابات المؤلفين الوجوديين على غرار: سارتر وكامي.
كما أن محمود المسعدي يعد علمًا من أعلام الفكر والثقافة في وطني، حتى إن الدكتور طه حسين قد أعجب به وبكتاباته.
ولكن لا أخفي إعجابي أيضًا بكتابات أبي القاسم الشابي، ومحمود بيرم التونسي، ومنوَّر صمادح، وآخرين كثيرين.
الحقيقة أن تونس ولَّادة وتعج بالكتاب والشعراء الجيدين.
وعلى ذكر الشابي.. ابن "توزر" في بلاد الجريد.. الذي نبهت مصر إلى أهميته وأصالة موهبته أيضًا عبر تبني مدرسة أبوللو لموهبته، والذي كتب النص السردي أيضًا كما أثبت الناقد البارز الدكتور محمد آيت ميهوب، أستفسر منها عن حفيدات الشابي وخريف والمسعدي من المبدعات، اللواتي تتربعن على عرش الكتابة التونسية اليوم. فتقول: هناك كاتبات وروائيات جديات وجيدات في بلدي لا شك في ذلك، ولكن الأدب خاضع إلى الكثير من الذاتية، وهناك الكثير من الكاتبات في بلدي يحظين بالقراءة والاحترام، وأنا شخصيًا تعجبني كتابات: حفيظة قارة بيبان، ورشيدة الشارني، وفاطمة بن محمود، وأسماء أخرى كبيرة.

ولقد وصلت المرأة المثقفة التونسية إلى هذه المرتبة بفضل اجتهادها وعملها الدؤوب. وأرجو للجميع النجاح والتوفيق. 
ويبدو لي أن سؤالي: "من الشاعرة الأولى في تونس برأيك؟" لم يرق للعمراني، فتصمت قليلًا ثم قالت قاطعة: ليست هناك شاعرة أولى وشاعرة أخيرة! فالشعر طويل سلمه، وهو مجال صعب ويتطلب الكثير من العمل. والكتابة الشعرية أصعب من قلع ضرس على حد تعبير الفرزدق، وذلك نظرًا لصعوبة هذا الفن الذي يتطلب موهبة ونفسًا طويلًا واشتغالًا عليه بإخلاص. وصحيح أن هناك شاعرات جيدات في بلدي، ولكن النقص في المدونة يتطلب صبرًا على هذه الأسماء حتى تمتلك أحقية حضورها. وأكرر أن الكتابة الشعرية صعبة وننتظر أن تتراكم المدونة وتتضح حتى نستطيع أن نحكم، هذا إن جاز لنا ذلك وأمكن طبعًا.
وأستفسر منها عن واقع الشعر التونسي، بوجه عام، بعد فقد رمز مهم من رموزه وهو محمد الصغير أولاد أحمد، فترد قائلة: أنا أعتبر محمد الصغير أولاد أحمد شاعرًا كبيرًا ومطبوعًا وذا شخصية متفردة، وبرحيله  فقد الشعر التونسي شيئًا من بريقه وألقه وتوهجه، فأولاد أحمد كان محرك المشهد الشعري التونسي، وقلبه النابض بالحياة والبهجة، وفقدانه يعد خسارة كبيرة في تونس والوطن العربي كله. ولكن لا ننفي أن هناك شعراء جيدون يشتغلون في صمت على قلتهم؛ كثيرون ومميزون وأرجو أن تزدهر الحركة الثقافية التونسية أكثر، فتونس كعادتها مبدعة تعج بالموهوبين.
وعن جدوى الشعر أسألها، في ظل هذا الظرف الصعب الذي تعيشه تونس في الشهور الأخيرة من جراء: أزمة البرلمان والوزارة، وما يجري في الجارة  ليبيا على الحدود الشرقية، فضلًا عن المخاطر المترتبة على تفشي جائحة كوفيد 19 في العالم.. فهل بمقدور الإبداع أن يفعل شيئًا للبشرية؟ فتجيب: الشعر بإمكانه أن يفعل الكثير رغم ظروف الوطن الصعبة ولكن شرط أن يكون الشعراء أوفياء للشعر ولوظيفتهم الوجودية والمعرفية، فالشعر يجمل قبح العالم، ويجعل الإنسان جميلا في وجوده وفي حياته اليومية ويخفف من شدة الاحتقان الاجتماعي بالكلمة الطيبة.
 الشعر هو أجمل طريقة للإقامة على الأرض.
 والأمل لا يزال موجودًا في الحياة بفضل وجود الشعراء وبصماتهم الخالدة على مر التاريخ.
وعن موقفها الفلسفي من الموت منذ تفتح وعيها على الإبداع.. وهل تغيرت هذه الفلسفة بعد تهديد كوفيد 19 للكيان البشري كله أسألها، فتقول: كان لي موقف فلسفي من الموت حيث كان الموت دائمًا قريبًا مني إذ نجوت منه أكثر من مرة، ولكنني أعتبر أن الموت هو حالة طبيعية وأنه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
ولكنني الآن صرت متمسكة بالحياة أكثر من أي وقت مضى، وأحاول أن أعيش ما تبقى من حياتي في هدوء قريبة من ذاتي، ومن خالقي؛ فالعمر قصير وعلينا أن نفيد منه على أفضل ما يرام.
بم تحلمين الآن؟ أسألها فتجيب: بأن تتحسن ظروف المواطنين في وطني، وفي الأوطان العربية كلها، وأن يشعر الإنسان بالأمان في وطنه. أحلم ببحر من الإنسانية يزول منها الخوف والطمع والأنانية.