ليو جيان ماي يؤرخ لوسائل الترفيه لدى الصينيين

كتاب 'وسائل الترفيه' يتتبع بالتأريخ عددا من المحاور الأساسية التي ترصد تطور وسائل الترفيه في الصين قديما وحديثا.
ليو جيان ماي يعتبر تدخين السجائر إحدى وسائل الترفيه
وسائل ترفيه الشعب الصيني تشهد تغيُّرًا غير مسبوق بتفاعل الثقافة الصينية والغربية

القاهرة - تمتلك الصين تاريًخا طويًلا حافًلا بشتى أشكال ووسائل الترفيه، والتي اتخذها الصينيون منذ القدم لقضاء أوقات فراغهم باعتبارها نوًعا من التسلية أو الألعاب الجماعية أو الفردية أو تلك التي تقام على نطاق القوميات المختلفة وفق عاداتهم الخاصة، أو التي يشترك الصينيون فيها على اختلاف قومياتهم، ويزخر التاريخ الصيني القديم بالكثير من وسائل الترفيه، والتي مرت بالعديد من مراحل التطور التي واكبت الفترات العصيبة في حياة الأمة الصينية، وأبرزها فترة حرب الأفيون والتدخل الغربي وأثره في حياة الصينيين، كما طرأ عليها أيضا عدد من التغييرات التي واكب فترة الإصلاح والانفتاح وتقدم مستوى المعيشة، وبخاصة بعد التطور الهائل الذي شهده العالم اعتمادا على الوسائل التكنولوجية والإنترنت وغيرها.
وهذا الكتاب "وسائل الترفيه" الذي نشر ضمن سلسلة "الصين في 100 عام" الصادرة عن مؤسسة بيت الحكمة، وقد حرره ليو جيان ماي وترجمته سارة زيد وراجعه د.أحمد ظريف، يتتبع بالتأريخ عددا من المحاور الأساسية التي ترصد تطور وسائل الترفيه في الصين قديما وحديثا، منها التقاليد الصينية ذات الصلة بالأغاني الشعبية المرتبطة بأعياد الصينيين ومناسباتهم، وكذلك وسائل الترفيه في المهرجانات والألعاب الموسمية، كما يتناول تطور وسائل الترفيه التقليدية ودخول العادات الغربية السيئة، وكذلك العادات الجيدة التي استنبطها المجتمع الصيني واحتفظ بها حتى الآن، كما يسرد الكتاب النمط الجديد للترفيه في المدن، وتقاليد القرى، بالإضافة إلى الترفيه الثوري في المناطق القاعدية والمحررة بعد تأسي س الجمهورية الصينية واحتفالات الصينيين بـ "القفزة الكبرى" وعودة الرقص الجماعي وتغيرات المجتمع الكبرى وكذلك الألعاب القتالية التي اشتهر بها الصينيون طوال تاريخهم، بالإضافة إلى وسائل الترفيه لدى القوميات، والهوايات التقليدية ودمجها مع روح العصر.
ويقول ليو جيان ماي أنه في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ ومع دخول القوى الرأسمالية والسياسية والاقتصادية والثقافية الغربية إلى الصين، بدأت الحياة الاجتماعية ووسائل ترفيه الشعب الصيني تشهد تغيُّرًا غير مسبوق؛ وبتفاعل الثقافة الصينية والغربية وتقاربهما، أُضْفِيَ معنى جديد لوسائل الترفيه في بعض المدن الكبرى من جانب، ومن جانب آخر ظهر العديد من وسائل الترفيه الغربية الجديدة المميزة وذات معنى بعيد المدى؛ بينما ندرت وسائل الترفيه الغربية في المناطق الريفية النائية؛ وذلك بسبب قلَّة تأثير الثقافات الأجنبية؛ لذلك لم يحدث تغيُّر كبير في وسائل الترفيه هناك.

تدفق وسائل الترفيه الغربية انطلق في الصين من بداية ظهور الصور الفوتوغرافية 

ويشير إلى أن أوبرا بكين تطوَّرت "للأوبرا الوطنية"، ففي نهاية عهد أسرة تشينغ دمجت مشاهدة الأوبرا في الحياة اليومية للناس؛ فأصبحت ألحان الأوبرا ونغماتها في كل مكان سواء المدينة أم الريف؛ فأنشئت مسارح للأوبرا في حدائق المدن الكبرى، والمشهور منها هو مبنى جوانغ خه وحديقة تايبينغ وحديقة تشونغ خه وحديقة يوشينغ ببكين، ونانجينغ ودانجوي والمسرح الجديد بشانغهاي، وحديقة كيوان وحديقة يولاي بتشنغدو، وباو خيشوان ومبنى بيخاي بتيانجين، والعالم الجديد بتيانجين، ومسرح نانيانغ بجوانغتشو وغيرها من المسارح؛ وبسبب ازدهار عروض الأوبرا والتمثيل فيها في بكين، انضمت إليها الفرق المسرحية واحدة تلو الأخرى من الشمال والجنوب، وتفاعلت مختلف المدارس والتيارات مع بعضها البعض؛ حيث جمعت بكين بين شعار دمج نغمتي بي وخوانغ، ونغمتي أسرة هان، والنغمات الأخرى لينتهي الأمر بتشكيل أوبرا بكين؛ ويقال: إن الإمبراطورة تسيشي كانت تدمن مشاهدة أوبرا بكين، وكانت دائمًا تدعو الفرق المسرحية للقصر الإمبراطوري لتقديم العروض، كما احتفظ الأمراء والمسؤولون بفرق مسرحية خاصة؛ وكانوا غالبًا يُؤَدُّون العروض في الولائم، وكان الكثير من العاطلين عن العمل من منشوريا والهان، وحفدة النبلاء يتسكَّعون طَوَال اليوم في حدائق المسارح، ويمدحون الممثلين الهواة وينغمسون في ذلك. ونتيجة لذلك بلغ الترفيه المسرحي القائم على أوبرا بكين ذروته، وسرعان ما أثر في الدولة بـأسرها؛ ومن ثَمَّ بدأت أوبرا بكين تتمتع بسمعة "الأوبرا الوطنية". 
ويلفت إلى أن ازدهار أوبرا بكين أدَّى إلى وجود بعض الممثلين المشهورين؛ مثل: تشنغ شانغ جونغ؛ الذي عُرف باسم "شنغ شنغ"، وتشانغ أر كوي، ويو سان شنغ، الذين شكلوا ما يعرف باسم "التيارات الثلاثة الأولى"، ويليهم تان شينبي، ويانغ يو لو، ووانغ جوي فن، وسون جيوي شيان، وغيرهم؛ الذين أصبحوا أبرز ممثلين في المدينة؛ ومع زيادة الأعمال المسرحية، كان الأمر الحتمي هو ظهور "طائفة عشاق المسرح"؛ الذين يهتمون بأموره، ويستفسرون عن حكاياته، ويتتبعون مساراته، ويجمعون معلوماته؛ فهم ليسوا أقل شأنًا من "مطاردي النجوم" اليوم.

ويعتبر ليو جيان ماي تدخين السجائر إحدى وسائل الترفيه فيقول "الصينيون في الأساس لديهم عادة تدخين السعوط والنارجيلة؛ وتُعَدُّ النارجيلة سيجارة عالية الجودة وتحتاج لوجود خدم، ويليها السعوط؛ ويقال: إن الإمبراطور جوانغ شيوي كان يحب تدخين النارجيلة؛ ولاحقًا، طوَّر الشعب الصيني عادة تدخين السجائر؛ وقال جيان يو جيه ملك التبغ بالصين في العصر الحديث وأحد مؤسسي شركة نانيانغ براذر للتبغ: إنه "في حوالي عام 1890، جاءت شركة نقل التبغ التابعة للتاجر الأميركي الصين للترويج لبضاعتها؛ وبعد ذلك أنشأت شركات التبغ الأمريكية مصانع صغيرة في هونغ كونغ وشانغهاي على التوالي، وبدأ لف السجائر وتصنيعها في أماكن استهلاكها، فنمت تدريجيًّا عادة تدخين الشعب الصيني للسجائر" حتى أواخر القرن 19 ومطلع القرن العشرين، وتماشيًا مع مقاطعة السجائر الأجنبية وتطوير صناعة السجائر المحلية، زاد عدد مدخني السجائر في البلاد، كما راج التدخين بين بعض المراهقين والسيدات. اشتهرت بعض ماركات السجائر الأجنبية؛ مثل: "خه دا من"، و"خونغ شي باو"، و"تو أر تشي"، و"دا يينغ"، وغيرها، وبعد ذلك أنتجت مصانع التبغ الصينية ماركات مثل "يان تسي" و"كونغ تشيوه"، وغيرها. ويقال: إن الإمبراطورة تسيشي كانت تحب أن تدخن سجائر كونغ تشيوه؛ وللترويج للسجائر انتشرت إعلانات شركات التبغ كالنار في الهشيم. ومع زيادة أعداد المدخنين، انتشرت دعاية بالآثار الضارة للتدخين، فاضطرت الحكومة إلى منعه لكن دون جدوى؛ حيث ازدادت أعداد المدخنين بشكل كبير".
ويرى ليو جيان ماي أن حضور المقاهي وانتشارها يرجع إلى أن "الشعب الصيني لديه هواية احتساء الشاي؛ وفي مطلع القرن العشرين، ولتوفير بيئة وظروف أفضل لاحتساء الشاي، نهضت المقاهي واحدة تلو الأخرى؛ لتصبح وسيلة تسلية للكثير من الناس، وتُعَدُّ الأسعار في المقاهي زهيدة ومناسبة للجميع الأغنياء والفقراء؛ لكن التجمع في المقاهي ليس القصد منه احتساء الشاي؛ لكن المقصد هو التجمُّع مع أصدقاء جدد وقدامى ليتجاذبوا أطراف الحديث حول الماضي والأعمال التجارية والبيع والشراء؛ ويمكن لأبناء العائلات الثرية الذين لديهم الوقت والمال اختيار مقعد في المقهى يطل على نافذة لمشاهدة الصخب في الشوارع؛ لقتل الملل؛ ووفقًا للتقارير، عندما افتتح أول ترام في مدينة شانغهاي عام 1908، حُجزت مقاعد المقاهي كافة الواقعة على طريق نانجينغ؛ الذي يمر عليه الترام؛ وفي اليوم الأول لمرور الترام لم يكن هناك مقعد شاغر في المقاهي؛ فالزبائن في المقاهي تارة يحتسون الشاي، وتارة أخرى يشاهدون الترام وهو يمر أمام ناظريهم، وهو ما يظهر الشعور بالراحة والهوية الذي لا يستطيع الدهماء الوصول إليه؛ والأمر الذي يجذب الناس أكثر هو أنه لا تزال هناك عروض للأهازيج في المقاهي.
وتطرق ليو جيان ماي إلى تدفق وسائل الترفيه الغربية منطلقا من بداية ظهور الصور الفوتوغرافية "في الوقت الذي لم يكن التصوير قد دخل الصين، كان الصينيون يطلبون من الرسامين رسم صور شخصية، وفي حوالي عام 1844، دخل التصوير الفوتوغرافي الغربي إلى الصين؛ وفي البداية، دخل التصوير الفوتوغرافي القصر الإمبراطوري، وأصبح ذلك "الصندوق الأسود" الذي يظهر ظل الإنسان شائعًا في القصر، رغبت المحظية تشن في دراسة التصوير الفوتوغرافي، فهي لم تلتقط صورًا للإمبراطور قوانغ شيوي فحسب؛ بل استخدمت مقتنياتها الخاصة لإرسال الخادم الشخصي لها سرًّا ليفتتح استوديو تصوير خارج دونغ خوا.

مشاهدة الأفلام كان لها تأثير عميق في نمط حياة ومعتقدات الشعب الصيني

 ويتابع "بعد عودة ده لينغ - ابنة وزير الخارجية يوي قنغ- إلى موطنها من أوروبا، طلبت بشجاعة التقاط صور فوتوغرافية للإمبراطورة تسيشي، وعلى غير المتوقَّع لم ترفض الإمبراطورة صعبة المراس طلبها؛ بل سمحت لده لينغ أن تكون مصوِّرتها الخاصة؛ ومن ثَمَّ خلّفت الإمبراطورة تسيشي وراءها الكثير من الصور التاريخية؛ وفي وقت لاحق، شاع التصوير الفوتوغرافي الترفيهي بين الدهماء، وبغضِّ النظر عن النبلاء أو التجار من الطبقات الدنيا فجميعهم عَدَّ التقاط الصور نوعًا من أنواع الترفيه العصري؛ وبحلول مطلع القرن العشرين، تطوَّر التصوير الفوتوغرافي بشكل كبير في بعض المدن الكبرى؛ ففي الغالب كانت مباني استديوهات التصوير على الطراز الغربي تتكون من طابقين أو ثلاثة؛ ففي شانغهاي المبنى يتكون من طابقين اثنين فقط؛ مثل استوديو تصوير فنغ تاي، وجمعية خه بينغ للتصوير ببكين، واستوديو تصوير رونغ، واستوديو دي شيوه تشاي بتشنغدو، وجميعهم تجارتهم رائجة. واستوديوهات التصوير تتبارى لالتقاط صور للممثلين المشهورين والزهور الشهيرة؛ لجني المال من وراء بيع الصور الشخصية للأشخاص الذين يتمتعون بالجمال؛ وفي ذلك الوقت، لم يَعُد التصوير مقصورًا على الصور الشخصية؛ بل تطور ليشمل صور المناظر الطبيعية والرياضات والمناظر الساكنة؛ وغيرها؛ وإجمالًا لذلك، فإن التصوير في تلك الفترة لم يَعُدْ عملًا ووسيلة للتواصل الاجتماعي فحسب؛ بل يلبِّي الاحتياجات الترفيهية؛ حيث أصبح التقاط صورة وإهداؤها للأقارب والأصدقاء أو الاحتفاظ بها عادة عصرية".
أما عن بداية ظهور "عروض الظلال الغربية"، يقول ليو جيان ماي "دخلت الأفلام الصين منذ فترة قريبة؛ ففي شهر أغسطس عام 1896، عرضت "يو يي تسون" في حديقة شيوي يوان "عرض الظلال الغربي"؛ ويُعَدُّ هذا أول فيلم عُرض في الصين؛ وبسبب الخيال الرائع وغير المتوقع في الفيلم جذب انتباه الصينيين بسرعة؛ حيث دهشوا لرؤية زيارة الإمبراطور الروسي لباريس؛ وارتكاب البرابرة الغرب المذابح؛ ورقص الشعب الإسباني؛ وحمل الهنود للعصا؛ وبالمقارنة مع وسائل الترفيه التقليدية فإن الأفلام تتميز بكونها حقيقية وساحرة وحية، كما يمكنها أن توسِّع آفاق الناس ومداركهم؛ حيث جلبت وسيلة ترفيه جديدة كلِّيًّا للشعب الصيني؛ لذا فقد ازداد حماس الجماهير تجاه الأفلام.
ويوضح "في البداية، كانت الأفلام تُعرض في الشوارع وحدائق الشاي والحانات، وفي وقت لاحق بنت الصين أول مجموعة من دور العرض السينمائي، وفي عام 1906، كان مقهى تشيوان شيان في المستعمرة الفرنسية في تيانجين يعرض باستمرار أفلامًا أمريكية، وفي وقت قصير غيَّر المقهى اسمه إلى "مسرح تشيوان شيان"؛ حيث ركز المقهى نشاطه على عرض الأفلام، فكان هذا أول دار عرض سينمائية في الصين؛ وفي عام 1908 أسس الإسباني ريموس مسرح هونغ كو لعرض الأفلام في شانغهاي، وبعد ذلك بنى سينما فيكتوريا؛ وفي ذلك الوقت كانت تعرض دور السينما أفلامًا أجنبية؛ وفي عام 1905، ابتاع رن جينغ فنغ مؤسس استوديو فنغ تاي ببكين كاميرا يدوية وفيلمًا من فرنسا، وبدأ أول محاولة لتصوير فيلم صينيّ، وأنتج أول فيلم صينيٍّ صامت، أدَّى دور البطولة في الفيلم الدرامي "دينغ جيون شان" الممثل الشهير بأوبرا بكين تان شينبي، وبذلك أطلقت موجة إنتاج الصينيين للأفلام؛ وعُرض هذا الفيلم بمسرح تشالان ومسرح جي شيانغ ببكين، الذي أحدث هزَّة في أرجاء البلاد جميعها. وفي مطلع القرن العشرين، ازدادت شعبية الأفلام "فكثرت الجماهير في دور السينما، واختلط الرجال والنساء، ومن فرط سعادتهم نسوا العودة إلى المنزل"؛ فمشاهدة الأفلام ليست وسيلة ترفيهية جديدة لدى الشعب الصيني فحسب؛ بل كان لها تأثير عميق في نمط حياة ومعتقدات الشعب الصيني.