ماذا بعد استقالة الحريري؟

مستوى الضبط في أوضاع لينان الداخلية يتجه نحو التلاشي وإن لم يصل إلى الانهيار الشامل بعد.

دخل لبنان منعطفا دقيقا جدا بعد استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة، إذ شكلت الاستقالة نقطة تحوّل في الأزمة الحالية التي تعتبر من أشد المراحل خطرا على استقراره ومستقبل نظامه السياسي بعد الحراك غير المسبوق لجهة التوقيت والمطالب وطبيعة العناصر المحيطة به داخليا وخارجيا. وعلى الرغم من شيوع هذه المظاهر في الحياة السياسية اللبنانية، إلا أن ما جرى يؤشر إلى مجموعة من الاحتمالات تشي بوضع غير مريح، تبدأ بأزمة حكم ولا تنتهي بانهيار سياسي اقتصادي لمجمل مفاصل ما تبقى من نظامه السياسي المترنح أساسا.

فقد انطلق الحراك على قاعدة مطالب سياسية اقتصادية اجتماعية لا يختلف عليها اثنان في الواقع السياسي اللبناني، إلا أن عوامل كثيرة حوّلت هذه المطالب إلى مركز شد وجذب سياسي تكاد أن تقضي عليه بفعل الاستثمار السياسي والأمني لجميع القوى السياسية إن كانت في المعارضة أو السلطة، وبالتالي فقدان بوصلة الحراك نحو الوصول إلى تحقيق المطالب المحقّة التي رُفعت.

الشائع في تاريخ الحركات المطلبية في لبنان نزوع المطالب ومن ينادي بها إلى أماكن خطرة عادة ما تتحول إلى أزمة حكم وصولا إلى أزمة نظام، اليوم يبدو المشهد مطابقا لأزمات سابقة ستبتدئ من إشكالية تكليف رئيس للحكومة وان يبدو الرئيس الحريري المرشح الأقوى للتكليف وصولا إلى بيانها الوزاري الذي لن يقبل من يقود الحراك بأقل من تضمين البيان سلة المطالب التي رفعت علاوة على تضمين الآليات التنفيذية لها ولو بخطوط عامة تهدئ من روع وتوجّس الشارع الذي سبق جميع ما تمَّ طرحة. وإذا كانت النيات لتلك المسارات متوفرة من حيث المبدأ، إلا أن ثمة الكثير من العقبات التي يمكن أن تعرقل أي مسار مرغوب به.

فإذا تم التوافق على الرئيس المكلف وهو أمر يبدو متاحا، فان سلسلة المطالب لن تكون سهلة التنفيذ في ظل وضع داخلي أاقتصادي ومالي مأزوم، علاوة على ظروف إقليمية ودولية تربط أزمات لبنان المتلاحقة بالكثير من أزمات المنطقة. وعليه إن المسارات التنفيذية للإصلاحات المطالب بها، لن تكون سهلة وهي بطبيعتها موضع تجاذب واستثمار محلي وخارجي كبيرين، ومن المرجح تلاشيها مع ضغوط أمنية واقتصادية تبدو مرشحة للتفاقم. فسلسلة المطالب ذات السقوف العالية لم تكن واقعية أو قابلة للتحقيق حاليا، فهي تبدأ من تغيير النظام الذي يتطلب آليات لم يجمع عليها اللبنانيون حتى في فترات السلم الأهلي البارد، علاوة على ظهور معطيات وأزمات متلاحقة تحد من بروز مسارات واقعية قابلة للحياة.

وسط كل تلك الظروف يرزح الوضعين الاقتصادي والمالي تحت ضغوط هائلة تهدد بانهيار شامل لمنظومة الاقتصاد اللبناني ووسائله، وهو تهديد حقيقي غير مسبوق في ظل مقترحات ومشاريع حلول غير متفق عليها في الأساس وتشكل سببا آخر لانقسام اللبنانيين، وفي المناسبة يمر لبنان اليوم بسابقة عدم قدرته على سداد فوائد ديونه وهي مؤشرات خطرة على بنية النظام وإمكانية استمراره، وعلى الرغم من أن معظم هذه الديون داخلية إلا أن مجالات ووسائل التحكّم بها هي خارجية، إن لجهة تمويل التسديد أو ارتباط هذه الديون بمواقف أصحابها بسياسات اقتصادية ومالية دولية يصعب تجاوزها أو أقله تجاهلها.

في السابق بدا لبنان وكأنه حاجة إقليمية في ظروف محددة ساعدته على تقطيع بعض الوقت، إلا أن ثمة مؤشرات تشي بعكس ذلك حاليا، وبالتالي إن مستوى الضبط في أوضاعه الداخلية يتجه نحو التلاشي وإن لم يصل إلى الانهيار الشامل حاليا للعديد من الأسباب والظروف الداخلية والخارجية. وأيا تكن ضبابية الصورة والمسارات المتاحة أو المرغوبة حاليا، فان الحراك القائم قد استهلك عمليا وفعليا وسط تركيبة سياسية قادرة على ابتداع واجتراح المعجزات لامتصاص أي حراك محق في مطالبه. لقد أدخل لبنان إلى الجيل الثالث من الحراكات العربية وان تكن بصور مختلفة، بدأت بسياسات الإنهاك المتدرج للمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتواصل عبر ابرز وسائلها الحروب الاقتصادية الناعمة القادرة على دغدغة مشاعر المجتمع الراغب في التغيير.