ماذا لو نجحت التجربة الكوفية؟

نقطة الانطلاق عندي هي سؤالٌ افتراضيٌّ لكنه جوهري إلى حد كبير، وكأنه كلمة السر التي تفتح باب المغارة لنخرج من النفق المظلم.
لماذا هذه اللحظة التاريخية دون سواها؟
الثورة الحسينية تعد من أعظم الثورات الإسلامية على الإطلاق

مرت مواكب العزاء متوافدةً من كافة الأنحاء إلى أرض كربلاء، رافعةً الأعلام تعبيراً عن النصرة. وتسمى هذه الذكرى الأربعينية محلياً بالعراق (زيارة مرد الرؤوس) أي رجوع وعودة الرؤوس، للاعتقاد بأن رأس الحسين (عليه السلام) ومن قُتِل معه من أهل بيته وأصحابه أُعيدت لدفنها مع الأجساد بعد أن أخذها جيش بني أمية إلى يزيد وطافوا بها تباهيّاً بالنصر .
انتهى "الأربعين" ولم أتوقف لديه كثيراً تجنباً لأية توجهاتٍ واعتقاداتٍ طائفية، مفضلةً الوقوف على الخط الرئيسي للحدث دون الدخول في تفريعات أو تهويلات أو محظوراتٍ، وبعيداً عن أية تحليلٍ طائفي، فقط سأربط الحدث بشخصه، وظرفه، ونتائجه، بالواقع الذي نعيشه، في محاولةٍ لإعادة النتائج إلى مقدماتها و أصولها الحقيقية لا العاطفية والوهمية. 
نقطة الانطلاق عندي هي سؤالٌ افتراضيٌّ لكنه جوهري إلى حد كبير، وكأنه كلمة السر التي تفتح باب المغارة لنخرج من النفق المظلم، سؤال افتراضي يُدخل العقل في حالة إيجابية تناقش وتفترض وتحلل وتخرج بنتائج تتغلب على الذات والآخر والنص كلهم جميعاً، فماذا لو؟ هذا السؤال الذي يدعو للتفاؤل أولاً، لأنه يُهييء الناس لحالاتٍ متخفيةٍ في ثنايا الغيب، ثانياً: هو سؤال يتفق مع ما نعيشه الْيَوْمَ من افتراضات خاصة بعد ظهور الثقافة التكنولوجية، وتطور مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها فضاءاتٍ غير واقعية تجعل الشخص افتراضيّاً يمارس أفعالاً افتراضية، ويحلم بآفاقٍ احتمالية.
لذا، وعلى الهامش الأربعيني يقفز سؤال "ماذا لو نجحت التجربة الكوفية؟"، ماذا لو لم يقتل الحسين؟ هل من تغيير تاريخي سيحدث؟ هل سيغير ذلك من حركة التطور  للمجتمعات الإسلامية؟ 

إشارة قوية وواضحة للمجتمع الإسلامي أمس واليوم، ودليل قاطع أن الثورة فعل اجتماعي، وليست إرادة دينية فقط

في البداية، وقبل التحليل والمقاربات السوسيولوجيّة والنفسية وصولاً للإجابة، سأذكر لماذا هذه اللحظة التاريخية دون سواها؟ لماذا ثورة الحسين دون غيرها من الثورات الإسلامية؟ ثم لماذا الكوفة دون غيرها من الأمصار الإسلامية؟ 
فالثورة الحسينية تعد من أعظم الثورات الإسلامية على الإطلاق والتي دعت لمبادئ الإصلاح والبناء الإنساني المتكامل، كانت حركة رفضٍ مطلقٍ للظلم السياسي والاجتماعي والقبلي والمناطقي، لتصبح بذلك الثورة الاستثنائية الوحيدة بالإسلام التي عمقت النزعة الإنسانية فمنذ لحظة تشكيلها لا حواجز فيها ولا طبقاتٍ، تدافع عن الحرية، وتنشر ثقافة الحقوق، وترفض الخضوع للظلم، فلم تكن لطائفةٍ معينة.
ففي خطاب الإمام الحسين لأعداء الحرية يركز على هذا المفهوم فيقول: "إن لم يكن لكم دين، فكونوا أحراراً في دنياكم".
بل تعد الثورة الحسينية الثورة الوحيدة الملهمة لثورات عديدة في العالم فتبدو كملحمة للأحرار، فهذا الزعيم غاندي يقتفي الأثر الحسيني، ويقول "لقد دققت النظر في صفحات كربلاء، واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر فلا بد لها من اقتفاء سيرة الحسين"، وغيره كثيرون من الثوار والمفكرين غير المسلمين الذين وجدوا فيها إرادة الحياة ومهمة التحرر الوطني ورفع مستوى الفكر البشري.
كما أن الأهم من هذا وذاك، أن ظروف المشهد الثوري الحسيني ما زال يتوالى بشدة، وبعمق إلى الآن، مما يجعلها ثورة ممتدةً وأن فصولها لم تنته إلى الآن، فمعايير المجتمع المتخاذل باقية منذ الانهيار المخزي الأول، والتصدع الأول ٦١ هـ ، ٦٨٠، والذي وضع السياسة الإسلامية على المحك، وربما العقيدة نفسها، وجعلها تتهم بالارهاب الثقافي، وانتهاك الحريات.
لم يختلف الوضع الإسلامي  كثيراً، فظروف الأمس تشبه كثيراً ظروف الْيَوْمَ، وما أشبه الْيَوْمَ بالبارحة، فما زالت مشاهد التصفية والقتل والتقطيع باقيةً. فتأتي القرون، وتذوب القرون بعد القرون كما تذوب حبة الملح في المحيط، ويظل التصدع في المجتمعات قائماً، وجميع ما ثار عليه الحسين قائماً، ما زال الأحرار إلى الآن يثورون عليه، وما زالت سيوف يزيد تقطع، وتمزق، ومؤخراً تُذيب الجثث .
كل ملامح المجتمع غير المتماسك الملئ بالشروخ، ما زالت واضحةً وبقوة، مما جعل الهوية الإسلامية مليئة بالأخطار، الأمر الذي حال دون تشكيل حكومة عدلٍ إسلاميٍ حقيقي، وعظَّم من السيادة العشائرية، وأحادية التفرد السلطوي، فلا يزال النظام البدوي عاجزا عن إفراز مؤسسات سياسية مدنية عادلة.

انتهى "الأربعين"
المشهد الثوري الحسيني ما زال يتوالى بشدة

الأمر الذي يجعلنا نطرح التساؤل الآخر، لماذا الكوفة؟ وهل يختلف المجتمع الكوفي عن مجتمعاتنا الْيَوْمَ؟ فهل لا نزال كوفيين؟ 
وليتضح هذا التقارب والتشابه بين الكوفة، وأغلب الأمصار الإسلامية، سأذكر سريعاً ملامح المجتمع الكوفي، والمدينة الكوفية، فقد بُنيت الكوفة بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لتكون مدينةً عسكرية، كانت بذلك نموذجاً عسكريّاً إسلاميّاً، تحركه عوامل عسكرية وسياسية، فكيف ظهر هذا المجتمع؟ وكيف يشبه مجتمعاتنا العسكرية الآن؟ 
رغم أن الكوفة كانت ثكنة عسكرية تحوي العديد من التجاذبات الخفية التي تفتقد للهوية التاريخية الواحدة، ففيها الفارسي والنبطي والسرياني، إلى جانب العبيد، والقبائل العربية اليمنية، وتشمل قضاعة، وغسان، وكندة، وحضرموت، وحمير، وعدنان، وغيرها. 
تكوين اجتماعي مختلط افتقد لذاتٍ اجتماعية واحدة، لم تكن السلطة فيه سلطةً ثقافيةً قادرةً على استيعاب القوميات المختلفة فيها، بل كانت السلطة فيها بسطوة السيف، لذا فالصراع الاجتماعي والطبقي اشتد خاصة وقد كانت تغذيه الأيادي  السلطوية، لذا ظل المجتمع الكوفي ماثلاً أمامنا إلى الآن، بنفس الصراع، بنفس الانحرافات الاجتماعية، بنفس الاٍرهاب السياسي، بنفس سياسات الغدر والمراوغة، وبنفس زيادة العطاء المالي لشريحة من الناس لتغيير اتجاههم الفكري، وخير دليل على ذلك قول الإمام الحسين (عليه السلام): "قد مُلئت بطونكم من الحرام، فطلع الله على قلوبكم".
وقوله أيضاً (على الإسلام): "السلام إذا ما بُليت الأمة براع مثل يزيد"، كل هذه العوامل السلطوية، كانت تحرك نفوساً ثوريةً تتجاوز كثيراً حالات الحماسة الساذجة، لكنها كانت وما زالت إلى الآن تفتقد الإرادة الصحيحة للنهضة. 
برغم المهام المنوطة على الكوفة كمجتمعٍ عسكري مهمته الدعوة لكتاب الله وسنة رسوله، والجهاد ضد الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، ورد المظالم، وإعطاء المحرومين، إلا أن النتيجة كانت قتل حفيد رسول الله، وسيد شباب أهل الجنة، بل والتمثيل به وبأهله، فأي بشاعةٍ تلك، وأي همجية!
لذا ظلت الثورة الحسينية مثالاً يشابه العديد من الثورات الإسلامية المطالبة بالحرية، والعدالة، والاستقرار، فالأمر أعمق وأبعد من شرعية الإمامة، والمسؤوليات الدينية التي أحاطت بالثورة الحسينية، الأمر يتناول البعد الاستراتيجي للثورة وآليات صنع القرار السياسي، وتغيير الجهاز الحاكم .
فالحسين أبو الأحرار، وثورته آفاق مشرقة للتمرد على الظلم والطغيان، والكوفة لم تكن أفضل مكانا لينال فيها الشهادة عن مكة، فالأمر إشارة قوية وواضحة للمجتمع الإسلامي أمس واليوم، ودليل قاطع أن الثورة فعل اجتماعي، وليست إرادة دينية فقط، وإلا كان انتصر. وان الحركة السياسية لا يحركها الله تعالى، بل هي ظاهرةٌ بشريةٌ . 
لذا ماذا لو تصورنا نجاح التجربة الكوفية، والثورة الحسينية؟ 
هل هذا يعني أننا كنّا سنورث مبادئ الحرية والعدالة، ويعني أن مجتمعاتنا ستكون مدنيةً قائمة على ثقافة المواطنة وسيادة القانون، ويعني أننا سننعم بالحرية، وستقوى إرادة الحياة بداخلنا، وان مجتمعاتنا العسكرية ستتغلب على الظلم والاضطهاد والقمع؟ 
نعم هذا ما كان سيحدث تماماً.
لذا أرى الثورة الحسينية أزليةً تخص البشرية جمعاء، وأراها تتعدى الحاجز الزمني والمكاني لتكون حجةً ليوم الدين؟ 
فماذا لو؟ نعم ماذا لو انتصرت؟ ويا ليتها انتصرت ..
وفي  مشهدٍ درامي عن لسان أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) يقول في "مسرحية الحسين شهيداً" لعبدالرحمن الشرقاوي:
سأظلُ أُقتل كلما سكت الغيورُ وكلما أغفل الصبور 
سأظل أُقتل كلما رغمت أنوفٌ في المذلة
ويظل يحكمكم يزيدُها ويفعل ما يريد
وولاتُه يستعبدونكم وهم شرُ العبيد 
ويظل يلقنون، وإن طال المدى جرح الشهيد 
لأنكم لم تدركوا ثأر الشهيد 
فاذكروا ثأر الشهيد
فهل سنذكرُ ثأر الشهيد؟ وهل ستنتصر يوماً ثورته؟