ما يمكن أن تحققه الصحافة في أفضل حالاتها


الكتّاب الذين يكررون الكلام في الصحف المطبوعة والمقدمون التقليديون على الشاشات، يصيبون الصحافة بضرر بالغ وهي تحاول إعادة ضبط مكانتها في العالم في زمن ليس عادلا بحقها، عندما يوسعون الفجوة بينها وبين الجمهور.
حاجتنا إلى البحث بشكل دائم وتعلم ما يمكن أن تحققه الصحافة في أفضل حالاتها

أعرف صحافيا يسبقني خبرة وتجربة وعمرا وأعلى مني شهادة جامعية، عندما ينظّر يصنع أفكارا مثيرة للنقاش ومحفزة على العمل، إنه يفكر بشكل سليم، لكنه عندما يكتب لا يختلف عن أيّ كاتب تقليدي، يجترّ المكرر ويعيد السائد وما تمّ قوله مرارا.

هذا الصحافي المنظّر ببراعة يحسد عليها، يعجز عن كتابة توصل أفكاره التنظيرية إلى القراء بطريقة مفيدة وتحثهم على استمرارية القراءة.

فهل التنظير يكتفي بكونه عملية ذهنية حاذقة تنتهي بمجرد التوصل إلى الفكرة، ويعجز مفكرها عن إيصالها إلى نص مكتوب مفيد للقراء لاحقا؟

تبدو لي أن العملية متراجحة ومتبادلة وغير متوازنة بين التفكير والكتابة، بين التحدث التلفزيوني والكتابة. هذا شأن إعلامي قائم اليوم بعد أن تحولت نسبة كبيرة من الصحافيين إلى متحدثين دائمين على شاشات القنوات التلفزيونية.

يمكن أن نجمع معا مجموعة من الصحافيين الجيدين عندما كانوا كتّابا في صحف ورقية، وبمجرد جلوسهم أمام الكاميرات اليوم أصبحوا آلات تكرر كلاما سائدا وعاجزا عن إقناع الجمهور.

هؤلاء، الكتاب، الذين يكررون الكلام في الصحافة المطبوعة والمقدمون التقليديون على الشاشات، يصيبون الصحافة بضرر بالغ وهي تحاول إعادة ضبط مكانتها في العالم في زمن ليس عادلا بحقها، عندما يوسعون الفجوة بينها وبين الجمهور، بسبب رغبة الأنانية في الظهور والنشر، وتراجع قدراتهم في استلهام الأفكار وصناعتها.

بينما حاجتنا -نحن الصحافيين- إلى البحث بشكل دائم وتعلم ما يمكن أن تحققه الصحافة في أفضل حالاتها.

فمن بين أهم النصائح الذهبية التي حصل عليها آلان روسبريدجر رئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق، من الصحافي البريطاني الرائد هارولد إيفانز الذي رحل عن عالمنا هذا الأسبوع، عندما سأله عن القاعدة الصحافية الوحيدة الثابتة، قال إيفانز: الأوضاع ليست كما تبدو على السطح احفر أعمق واحفر أعمق واحفر أعمق!

سبق أن استعان الكاتب ديفيد اغناتيوس بجملة كان روبرت كايسر، المحرر في صحيفة واشنطن بوست قد أطلقها من أجل تعريف علاقة الصحيفة بالقراء، بالقول إن “القراء يستحقون لقطة واحدة وواضحة على الحقائق” حتى يتمكنوا من تحديد من هم الرجال الصالحون ومن هم الأشرار. ولكن اغناتيوس يعتذر من نفسه ومن زملائه الصحافيين، وهو هنا لا يرتدي نظارة سوداء عندما يتأمل واقع الصحافة بالقول “حتى في أفضل أيامنا، فإننا لا نفي دائما بهذا الاختبار العسير”.

فكرة الأسماء الكبيرة في الصحافة المكتوبة، ستسقط بالتقادم عندما تهمشها أصوات نيّرة تصنع أفكارها بمحتوى متميز، لكن -لسوء حظ الصحافة- المشكلة مستمرة إلى اليوم عندما تحافظ المؤسسات الصحافية على هؤلاء بنوع من الوفاء لتجربتهم بغض النظر عن فائدتها.

وتكمن مشكلة التلفزيونات مع التراجع المريع في صناعة المحتوى الإعلامي المتميز، وهي معضلة تهدد جوهر الصحافة لأنها قائمة ومستمرة باطّراد مزعج.

الصحف تقدم خسائر بمحتواها المنشور مثلما تتراجع التلفزيونات عمّا يتوق إليه المشاهد، بخضوعها للسائد وتحويل البرامج الحوارية إلى مجرد مقهى للثرثرة الفارغة وبلغة هابطة.

مع ذلك يعمل الصحافيون الحقيقيون ببسالة، والزمن كفيل بإعادة الكفة إليهم للمحافظة على جوهر الحقيقة وحرية تداول المعلومات بين الناس.

صحيح أن هناك القليل من الصحافيين الجيدين وقد لا يكون عددهم كافياً من أجل استمرار الصحافة بمسؤولية وحساسية عالية، لكن ذلك ما هو متاح لنا اليوم من أجل المحافظة على مدونة القيم.

من المفيد هنا أن أستعين بما كتبته رولا خلف رئيسة تحرير صحيفة فايننشال تايمز البريطانية قبل أيام، من أجل استعادة الأمل بالصحافة المكتوبة، لكن لسوء حظ التلفزيونات ليس لديّ مثال معادل يبعث على الأمل في تلك القنوات العربية.

ومع أن مثال رولا خلف من الصحافة البريطانية، لكنه مقياس متميز للأخذ به والاستفادة منه بالنسبة لصحافة عربية تعيش أكبر أزمة وجودية في تاريخها. فضلا عن أزمة الجوهر التي طبعت بها تحت وطأة الضغط السياسي والمالي والخضوع للحكومات.

تعرض خلف صورة حزينة عن مكاتب التحرير التي تحوّلت في لحظة فارقة من اجتماعات مزدحمة وأراء متقاطعة وأفكار متبادلة بين الزملاء، إلى مجرد عمل رقمي مشتت ومتباعد تحت وطأة جائحة كورونا.

لكنها وبعد ستة أشهر من التباعد تكون فايننشال تايمز قد اجتازت هذا الاختبار من خلال تقديم المحتوى الصحافي بطريقة متبصرة وتحليل عميق يحفز على التفكير المطلوب للتنقل في هذا العالم سريع التغير.

لا تخفي رئيسة تحرير أشهر الصحف البريطانية سعادتها بعشرات الآلاف من المشتركين الجدد بمحتوى الصحيفة على الإنترنت وبطبعتها الورقية، منذ شهر مارس الماضي مع دخول العالم إلى الحجر المنزلي وانهيار النشاطات.

علينا أن نذكر هنا أن فايننشال تايمز تقدم محتواها على الإنترنت مقابل اشتراك مدفوع، وتمتلك اليوم مليون مشترك بمحتواها الرقمي، في إنجاز يشكل موضع فخر للصحافة ويجيب عن الأسئلة المكررة عن موت الصحافة المطبوعة.

ورغم الأزمة الاقتصادية التي أصابت كل المشاريع والشركات جراء انتشار الوباء، إلا أن خلف تعبر بثقة عن الوضع المالي القوي والمتماسك للصحيفة بفضل القراء الأوفياء “هل نجد معادلا في صحفنا العربية”، وبفضل نجاح نموذج الأعمال الذي اعتمدته الصحيفة على الاشتراك الرقمي مقابل المحتوى المتميز الذي تقدمه، وكيف أثبت قيمته ومرونته في أوقات الأزمات.

هذه الصحيفة وفق تعريف لوسي كيلاوي أحد أهم كاتباتها اليوم ومحرريها السابقين، توظف الناس الأذكياء الذين يعرفون كيفية اكتشاف المواضيع المهمة وكتابتها بشكل رائع، وإعطاء القراء المزيج الصحيح مما هو مألوف ومدهش، الخبرة والمعرفة والممارسة والقدرة على الحكم والمهارة والذكاء كلها أمور تلعب دورا، كذلك تفعل القدرة على الكتابة، والقدرة على التفكير، وذلك ما لم يستطع أن يجمعهما صديقي الصحافي المنظّر في مستهل هذا المقال.