مستشار الرئيس تبون، بوعلام بوعلام: نحو أسطرة الرجل

كان قدر الجزائر وسيظل دوما يفضي إلى خلق هالة سميكة حول رجال تعطى لهم ما لا يخطر على بال، يتماهون في الغموض والإبهام.

في ظهور نادر قطع به المستشار الخاص للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون وأقرب مقربيه بوعلام بوعلام وبئر أسراره كما ينعت، وواحد من أخطر رجال الدولة الحاليين، قطع الشك باليقين في حفل ديني أقيم مؤخرا بمناسبة ليلة القدر. لم يكتفِ بذلك بل قام بتوزيع بعض الجوائز على الفائزين في مسابقة قرآنية، وكرّم بعض المشرفين عليها، ووزع عليهم ابتسامة مرسومة على شفتيه. ظهر متحللا من اللباس الرسمي، مرتديا قميصا أبيضا، تعمد أن يظهر هكذا في صورة خالية من مبالغات الأقوال والحكايا المتكاثرة حوله، والتي جعلته إما مخيفا أو جبارا، صاحب كلمة لا ترد وقرار ينفذ على الفور، ظهر متماهيا مع تلك اللحظة، جالسا على الأرض، مشدودا إلى كلمات تلقى هنا وهناك، منجذبا خاشعا عندما بدأ الحفظة في قراءة خواتم صحيح البخاري. هل كانت لحظة صفاء ونقاء وطهر؟ لربما شرد به الخيال وعاد واستذكر أجواء مسقط رأسه "البيض"، ففي مثل هذه الأيام تتربع داخل زوايا هذه الأخيرة حلقات القرآن والصلوات والذكر والأدعية وكل ما تحفل به من طقوس وروحانيات ومقامات وحضرات وخلوات يغتسل فيها الخلق من الذنوب والمعاصي والخطايا، تتبخر بالبركات، تظلل الروح والعقل وتفصل الجسد عن الأرض وتسمو إلى حيث الأنوار والعلى.

جاء هذا الظهور في حمى تصاعد ما يقال ويتردد عن صراعات في المشهد العام للحياة السياسية، معروفة بالإسم والشكل والمظهر وتغيب عن النظر والعيان، بين عدد من الأطراف داخل النظام لأسباب وخلفيات تبقى دوما معلقة في حكم التكهنات والشائعات وحديث الصالونات والمقاهي والأمكنة الضيقة. ظهر بوعلام بوعلام أو بي بي إختصارا للقبه واسمه، المحبب للعارفين به أو المتوارين عنه عندما يريدون الحديث عن قبضته على كل صغيرة وكبيرة داخل سرايا الحكم. ظهر في كامل لياقته معاكسا لما قيل أنه معتل وليس بصحة جيدة وأنه في فترة نقاهة وراحة. أو ربما أرتبط ظهوره أيضا ردا على تسريبات قالت أنه متواجد في الخارج وبالضبط بفرنسا وصل الأمر إلى فتح تحقيقات أمنية بشأن هذه السفرية "المزعومة"، التي تردد أنها لجس نبض بعض اللوبيات والشخصيات الفرنسية النافذة لتهيئة جو العهدة الثانية للرئيس تبون.

يحوي بوعلام بوعلام على كمّ هائل من الحضور القوي ضمن منظومة الحكم الحالية وفي مخيلة الكثير من الدوائر المعنية مباشرة بالسلطة من شخصيات سياسية وعسكرية وكارتلات المال والمصالح والمنافع. بطانات متعددة المشارب والأهواء تبحث عن أي سبل للهداية على يديه والوصول بسرعة إلى مقامه، نسبت إليه آلة البروباغندا السرية والعلنية صفة نفوذ مسيطر وقوة خارقة، على بابه تقف وفود الزوار قد يسمح برؤية بعضهم، وعلى الآخرين أن يبقوا في القائمة الطويلة للفرص النادرة للقائه، توضع في يديه مفاتيح ما يطبخ ويعد هناك في القصر أو في أمكنة أخرى معلنة وسرية، يشكل المصائر والمواقف والأفعال والقرارات الحاسمة الدقيقة للدولة الجزائرية، يعود البث فيها إليه ولدائرة ضيقة جدا من محيط الرئيس، في مفارقة بقيت تقليد راسخ لم تخرج أبدا من هذا النمط في تسيير شؤون البلاد، يُبدل المعطف بين الحين والحين بين ثلة مدنية تأخذ المشورة والرأي، لا تخطو إلا بإيعاز وإشارة ورضى العسكر في الكثير من الأحيان إن لم يكن دوما.

فيما مضى بقي بوعلام بوعلام من بين قلة قليلة وفيّة شاخصة مستبصرة ومخلصة للرئيس تبون حين عصفت به أهوال الغضب المدمدم واشتعلت تحت رجليه نار ذات لهب. كان تلك مرحلة المأساة "الشكسبيرية" التي مرّ بها الرئيس تبون، حبكت فصولها آنذاك عصابة الحكم المطلق والمال الفاسد، يجهل كيف تواصل معه حيث كانت الرقابة قاطعة رقاب كل من تسول له نفسه الاقتراب من عتبة هذا الأخير. والأكيد أنه تلمس ولامس الطرق الخلفية والسبل والدهاليز الدامسة المؤدية إليه في غفلة عن عيون العسس، فهو عريف وذكي وماكر وصموت، ويتقن العمل بدهاء وخفاء دون أن يهمس أو أن يترك أثر وعلامة، تعلم ذلك عندما رأس واحدة من أخطر الأجهزة المعنية بتعقب الأسرار الدقيقة للدولة ورجالاتها وغاص فيها للذقن، ونعني بها "الوكالة الوطنية الجزائرية لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والإتصالات".

لعل أكثر ما يميز النظام في الجزائر منذ نشأته أن غموض بعض رجالاتها الذين يعملون في مدلهمات الهامش وفي بوتقات مغلقة بإحكام حتى لا يروا بالعين المجردة، هي عملية مقصودة وفائقة التخطيط كي لا يعرف عنهم شيء عما قاموا به وصنعوه. فكم من فاعل قوي أنطفأ وطويت صحائفه في صمت القبور الأبدي، وكم من شخصية مبهرة لعبت في الخطوط الأمامية للحكم دون أن تخلف ما يشار إليها، وكم منهم من ظلت الألسن تتهجاهم وتلوكهم وهم في الحقيقة بسطاء وعاديون، لكن في الحواشي وفي مخابر القيل والقال أجترحوا لهم هويات ومعاني مخيفة اقتربت من الأساطير والخرافات، أرادوا لهم أن يكونوا كالبعبع أو الغول الذي يأكل الجثث في وضح الليالي ويشرب الدماء في كدر النهار. وعندما يكشف الغطاء عنهم سندرك أنهم بشر تكسو لحومهم العظام، يهرمون، ويمرضون، ويذهبون إلى المرحاض أيضا، وتلك صورة أخرى لم ترسمها لهم المخيلة الشعبية وحتى الرسمية، وتفاد تذكرينا بها مشغلي الألة والدعاية.

فهل قيّض لبوعلام بوعلام أن يصطف ضمن هذا العرين من الرجال الأقوياء؟ هل يملك مؤهلات تبرق على جبينه؟ هل فعلا نشهد بروزه كند وشبيه لمن كانوا قبله سواء داخل قصر الرئاسة أو في المؤسسة العسكرية أو في مواقع أخرى؟ هل سيكون واحد منهم؟ مجرد تجميع لصفات وأحاديث وأخبار تتطاير بين الأفواه كالغبار، بدون شكل ولا لون.. هيوليون وهلاميون.. أشباح تتحرك ببطء عال وبستر كأنهم غير موجودين، ولكنهم مسيطرون على الوعي ويتمددون فيه إلى ما لا نهاية.

كان قدر الجزائر وسيظل دوما يفضي إلى خلق هالة سميكة حول رجال تعطى لهم ما لا يخطر على بال وقلب بشر، يتماهون في الغموض والإبهام، ولعل أسطع مثال عن هؤلاء جميعا قائد جهاز المخابرات السابق الفريق توفيق، لم توفر له مسطرة الأسطرة أي مكان ليقول للناس أنا بشر أمشي في الأسواق مثلكم، بل مُلك أو أمتلك قدرة رهيبة على أن يظل وحده ولفترة طويلة جدا - لعله مازال كذلك - إله الأسطورة.. بلا صوت أو وجه أو صورة واضحة، تجذر فيها ولم يتفكك منها أبدا.

غير بعيد عنه في المسطرة أحتل مستشار الرئيس الراحل بوتفليقة المسجون حاليا السعيد هذه المكانة الغامضة، انتسب هو أيضا إلى مملكة الإستحواذ على كل شيء حين كان في القصر، تكثفت حوله الحكايا والروايات وأنشطرت في كل مكان حتى بلغت عنان السماء حتى ليــداخلك شك في أن الرجل إما من نار الشيطان أو نور ملاك.

في الوقت الراهن تعاد الحكاية مع بوعلام بوعلام بهمس صاخب، ويعجن له نفس الموديل من طرف نفس الأيادي الخفية وبنفس الروح والتقنيات والخصائص والتفاصيل، أما هو فملتزم بها - أي الحكاية - سواء غفل عنها أو أنتبه إليها، متمازج مع النغمة التي تعزف على طريقه إما برضاه أو بغير رضاه، والأكيد أن حلم القطع معها ستكون بمثابة خروج عن نوتة لا تزعج أحد بل بالعكس يستمع إليها ويتمتع بها حتى ولو كانت نشاز على الأذن.