مصر تستعيد محمود سعيد من خلال مجلة "فنون"

هيئة الكتاب المصرية تصدر عددا خاصا وتذكاريا من مجلتها المتميزة "فنون" عن أيقونة التصوير المصري محمود سعيد.
مصطفى طاهر يتجول داخل مجمع متاحف محمود سعيد في الإسكندرية
البرجوازي الكبير الذي أحب شعبه ووطنه

باطمئنان كامل يمكنني القول إن المشروع الروائي الذي خصّ به الكاتب السكندري والشاعر أحمد فضل شبلول حياة الفنان التشكيلي الراحل محمود سعيد ولوحته الشهيرة "بنات بحري" في روايتين صاحبت صدورهما أصداء واسعة، وهما: "اللون العاشق"، و"الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد" كان وراء استعادة الفنان الكبير - الذي رحل عنا قبل 56 عامًا - إلى الحباة بقوة في أيامنا هذه، وصدور عدد تذكاري في القاهرة من مجلة "فنون" التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب عن محمود سعيد تفاوتت مستويات مادته بين الأصيلة والسريعة.
كتب رئيس التحرير حاتم حافظ افتتاحية العدد عن "الشغف بمصر"، وكتب مدير التحرير مصطفى طاهر تحت عنوان "البحث عن محمود سعيد حصريا". وعن احتفاء مجلة "لاسيمان اجيبسيان" (الأسبوع المصري) بعبقري الإسكندرية في ثلاثينيات القرن العشرين تكتب دينا قابيل. ويروي سمير غريب القصة الكاملة لأول كتالوج مسبَّب لفنان عربي. بينما تحدثت صفاء الليثي عن أول فيلم تسجيلي عن الفنان محمود سعيد "البرجوازي الكبير الذي أحب شعبه ووطنه". وتكتب زيزي شوشة عن جدارية أبدية لمصر. ويتحدث آدم ياسين مكيوي عن عالمية محمود سعيد مستهلا حديثه بفقرة من الفصل 11 من رواية "الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد" لأحمد فضل شبلول والتي صدرت مؤخرا عن دار الهلال بالقاهرة، والذي سبق نشره في جريدة الأهرام في أبريل 2019.
ويتسع العدد لأقلام أخرى شاركت، حيث يكتب مصطفى طاهر مجددا من داخل مجمع متاحف محمود سعيد في الإسكندرية، ويكتب كل من: هند جعفر، وفاطمة الحفني وشريف صالح، وإبراهيم فرغلي، ود. ماجدة سعدالدين، وشريف الشافعي، وسمير درويش، وياسر عمر أمين، وباسم صادق. ويترجم أشرف الصباغ مقال الروسي أناتولي بوجدانوف "نظرة محمود سعيد .. إشراق وحرية".

كما تستعيد المجلة مقالات سابقة بأقلام عدد من كبار الكتاب والنقاد التشكيليين والمؤرخين من أمثال: بدرالدين أبوغازي، ومحمد صدقي الجباخنجي، وأحمد راسم، ورمسيس يونان، وراتب صديق.
وتتناول هبة عبدالستار ما كتب عن محمود سعيد في المكتبة العربية، ومنها كتاب "محمود سعيد" لبدر الدين أبوغازي، وكتاب "دراسات نفسية في الفن" للدكتور مصطفى سويف، وكتاب "فجر التصوير المصري الحديث من 1900 – 1945" لعز الدين نجيب، وكتاب "كتابة الصورة" لمحمد مختار الجنوبي، وكتاب "المرأة المصرية والفنون الجميلة في القرن العشرين" لأسامة السروي، وكتاب "المكان في فن التصوير" لنعيم عطية، فضلا عن كتب أخرى لمصطفى الرزاز، وعصمت داوستاشي، ونسمة عطالله، وماجدة سعد الدين، والكتالوج المسبب أو "الكتاب الموثق" للباحثة الفرنسية فاليري ديدييه هاس والدكتور سامح رشوان.
ثم تتوقف هبة عبدالستار عند رواية "اللون العاشق" لصاحبها أحمد فضل شبلول وتقول إنها كانت مفاجأة بانضمام أول عمل أدبي للمكتبة العربية مكرس بالكامل لتجربة صاحب "ذات الرداء الأزرق"، حيث صدرت العام الماضي رواية "اللون العاشق" عن "دار الآن ناشرون" (2019) للكاتب المصري أحمد فضل شبلول التي كتبت لتكون سيرة غيرية ثقافية فنية لمحمود سعيد؛ جعل فيها شبلول، سعيد الراوي، وجعل أبطالها جميلات بحري اللواتي يتشابكن مع الفنان ومع الواقع الحياتي الذي يعاصرنه. وشغلت لوحة "ذات الرداء الأزرق" الغلاف الأمامي للرواية التي تتوقف أحداثها عند عام 1935، وهو العام الذي رسم فيه الفنان أشهر لوحاته "بنات بحري".

fine arts
نعيمة

وتتابع هبة عبدالستار قولها عن "اللون العاشق": يمكن تصنيف الرواية كـ "رواية معلوماتية" حيث يتضح بشدة الجهد البحثي الذي بذله شبلول في إنجاز روايته عبر نجاحه في تجسيد ثقافة وفلسفة محمود سعيد، وكذلك رؤيته الفنية وتجربته الإبداعية وألوانه وشخصياته وعوالمه التي انعكست بوضوح في لوحاته وأحاديثه عن رموز الفن التشكيلي العالمي الذين تأثر بهم، وحكايات النساء بطلات لوحته الشهيرة "بنات بحري" التي تقوم عليهن الرواية.
وتحكي الرواية الظروف التي سبقت ورافقت رسم لوحة "بنات بحري" في إطار أدبي قائم على التشويق عبر تتبع جريمة سرقة وتهريب اللوحات الفنية المصرية والشرقية إلى أوروبا، عن طريق شبكة عالمية تستخدم مندوبين يهود أو من جنسيات أوروبية كانوا يعيشون بالإسكندرية، يستعينون بمصريين تربطهم بأصحاب اللوحات علاقة ما، ليتطور الأمر إلى جريمة قتل تكون ضحيتها "حلاوتهم" الموديل الرئيس في اللوحة.
وربما تكون تلك الرواية فاتحة لأعمال أدبية أخرى تقتحم عوالم محمود سعيد الإبداعية، فكل لوحة من لوحاته تقبع خلفها حكاية تمزج بين الواقع والخيال، يمكن صياغتها في عمل أدبي لا يغيب عنه التشويق. فكما أثرى محمود سعيد فن التصوير، يمكن لأعماله أيضًا أن تثري الأدب وتتقاطع معه. 
وعلى صفحات هذا العدد التذكاري الخاص من مجلة "فنون"، يصف لنا الفنان التشكيلي والناقد البارز صلاح الدين بيصار، الرائد محمود سعيد بأنه "أيقونة التصوير الحديث في القرن العشرين"، ويذكر أنه استطاع أن يعكس في فضاء الصورة شخصية مصر؛ نراها متجسدة في فنه بتكاملها وثرائها وتنوعها بين الروح والمادة، والسمو والجلال والروح الشعبية والابتهال، خاشعة مثل لوحة "الصلاة"، مسكونة بالحزن والشجن في لوحات "المقابر"، وممتلئة بالخصوبة وقوة الحياة كما في: "بنت البلد"، و"ذات الحلق اللولي" و"ذات الغوايش" و"فتاة على رأسها منديل" وغيرها. وتعد "ذات الجدائل الذهبية" نداهة الفن بما تحمل من واقعية سحرية، وجاءت لوحته الصرحية: "المدينة" بعناصرها العديدة، و"بنات بحري" ملحمة تلخص مفهوم الهوية المصرية مع مناظره للطبيعة.
وهو بصوره الشخصية لأسرته ولطبقته الأرستقراطية، خاصة، ووالده محمد سعيد باشا الذي رأس الوزارة قبل الحرب العالمية الأولى، فيعكس وجهًا آخر في عالمه من الاحترام والتبجيل باللمسة والجلسة، في مقابل التحرر بلا حدود في عالمه الشعبي ودنيا المرأة.
جمع "سعيد" بين دراسة القانون والفن، حيث درس في مدرسة الحقوق الفرنسية، ودرس الفن في مراسم الإسكندرية الأهلية، كما درس بمتحف اللوفر، وفي أكاديمية "الكوخ الصغير"، و"جوليان".
وعن الفرنسية تترجم دينا قابيل مقال "الإنسان ولوحته" للكاتبة ماري كافاديا التي تقول فيه: منذ ثلاث سنوات، وبينما كنت أتعرف على أعمال "الصالون العام للفنون التشكيلية"، وبعد نزهة رتيبة في قاعات العرض التي تعج بأنصاف الموهوبين، شعرت بأنفاسي تتوقف أمام لوحة "الصيد العجيب". أخيرًا وجدت لوحة هي تصوير حقيقي، لوحة تناجي الأعماق؛ فالسماء التي تشح عطاياها منحتني هدية ثمينة، منحتني سببًا كي أنتشي؛ كان السبب هو لقائي الأول بمحمود سعيد في ذلك اليوم، كان الصيد العجيب من نصيبي أنا. بعد عامين تعرفت على الفنان، وأثناء تلك الفترة، كنت أستعيد رسومه الساحرة في مخيلتي، وسرعان ما احتلت مكانها في عقلي.
 والآن، وبعد أن ألفت الرجل وأعماله الفنية، فهما يكونان معًا وحدة لامرئية ذات جاذبية لا تقاوم؛ فكيف يمكن فهم محمود سعيد دون لوحاته، وكيف يمكن فهم أعماله بدون محمود سعيد ذاته؟ فكلاهما الفعل والمفعول به: هو الهادئ اللطيف الخجول، بينما هي محمومة وشهوانية وعدوانية.
وفي العدد مقال للكاتب جون موسكاتيللي الذي يقدم الفنان محمود سعيد من خلال حوار أجراه معه. حيث حرص موسكاتيللي على أن يقدم "اعترافات" الفنان نفسه، وهو يمهد لحواره بهذه الكلمات: "إذا كانت تفاصيل حياته قد رصدت بأسلوب مميز وبوضوح شديد، فلا فضل لي في ذلك. فقد وردت إلىَّ كما هي، ولم أفعل شيئًا سوى أني نقلتها هنا". ثم يسأل محمود سعيد: ما الذي قادك إلى الفن التشكيلي على الرغم من هذه الدراسات الخطيرة وانشغالاتك، ومركزك الذي لا يقل أهمية؟ فيجيب الفنان الخالد: الرسم هو الولع القديم منذ الطفولة، إلى جانب تعلمي للرسم في المدرسة، كانت السيدة كازوناتو دا فورنو هي معلمتي الأولى. وفي عام 1916، التحقت ببعض دروس الأستاذ آرتورو زانيري. وكان كلاهما خريج أكاديمية الفنون بفلورنسا. ثم في السنة التالية، بدأت أعمل وحدي اسكتشات وبورتريهات نقلًا من الطبيعة.

ثم يسأله: ماذا عن الفن المصري؟ عند تأمل لوحاتك عن قرب يظهر تأثرك به بقوة.
فيجيب: لا يمكن إغفال كل ما أدين به من بهجة ومشاعر عميقة عند مشاهدتي النحت المصري.  فإذا كان مايكل انجلو حين رسم "كابيللا سيستينا" تفوق على كل أقرانه، فإن النحاتين المجهولين الذين نحتوا في الجبال والصخور معبد أبوسمبل قد تجاوزوه.
وتستمر الأسئلة الموجهة لمحمود سعيد: وماذا عن فناني العصر الحديث؟
ويقول: إلى جانب عمالقة الماضي الذين أولع بهم، لا يمكن أن أذكر سوى: "كورو"، و"سيزان"، و"رينوار".
ومع الناقدة التشكيلية السكندرية الدكتورة أمل نصر يستمتع قراء العدد بحوارات أخرى بينها وبين الجسد والمشهد كما صورهما محمود سعيد، تقول: كانت المرأة في أعمال محمود سعيد هي سيدة المشهد؛ فنساء محمود سعيد وأميراته هن الفقيرات، اللاتي رد لهن اعتبارهن بتألقهن في أعماله الخالدة، منسحقات في دوامة الحياة، لكن ملكات متوجات في مملكة محمود سعيد. يقدس عريهن النبيل؛ فتارة يستخدم المرأة كبطلة أسطورية وسط الطبيعة، وتارة كعلامة مصرية في مشاهده الشعبية الملحمية، ومرة يغلق عليها غرفة فتتحول إلى آلة حسية، تستلقي لاهية كسول لامبالية، مقيدة بجدران أربعة، ومرات أخرى يكسب عريها غموضًا تفجره أكثر نظرات التحدي والتحديق بما تنطوي عليه من جرأة سافرة. ومرات أخرى يصورها بمودة حانية ساكنة مطمئنة تحمل جنينًا في أحشائها تترقب لحظة وصوله.
إنه محمود سعيد الذي سيظل خالدا في ذاكرة الفن التشكيلي المصري والعربي والعالمي، والذي تحتاج كل لوحة من لوحاته إلى حكاية ورواية كما قالت هبة عبدالستار. ولعل هذا العدد المصقول من مجلة "فنون" يكون بداية لاستعادة محمود سعيد من وراء ستائر النسيان ليكون حاضرا بقوة أمام أبصار الشعب الذي رسم له، مثلما غنى سيد درويش له، وكتب نجيب محفوظ عنه وبه.