مظاهر حضور الفلسفة في الرواية العربية

روايات عربية تترجم نظريات فلسفية مؤثرة في شتى نواحي الحياة المدنية الحديثة على غرار حدث أبوهريرة قال، أوراق: سيرة إدريس الذهنية، عشب الليل، سيرة حمار، آخر الأراضي، وسينسيوس وهيباتيا.

تحضر الأفكار والرؤى والتأملات الفلسفية في العديد من الروايات العربية المعاصرة، محرّكةً عوالمها السردية بأسئلة إنسانية ووجودية وميتافيزيقية. وكان فن السرد ملاذ الكثير من الأدباء والمفكرين العرب لتكريس أفكارهم ونظرياتهم الفلسفية، فجاءت رواياتهم محملة بتلك الأفكار والنظريات ذات الأثر البالغ في شتى نواحي الحياة المدنية الحديثة. من نماذج تلك الروايات، تمثيلاً لا حصراً، "حدث أبوهريرة قال" للروائي التونسي محمود المسعدي، "أوراق: سيرة إدريس الذهنية" للمفكر المغربي عبدالله العروي، "عشب الليل" للروائي الليبي إبراهيم الكوني، "سيرة حمار" للمفكر المغربي حسن أوريد، "آخر الأراضي" للروائي اللبناني أنطوان الدويهي، و"سينسيوس وهيباتيا" للروائي الليبي فرج العشة. 
تترجم رواية "حدّث أبوهريرة قال" الأفكار الفلسفية الوجودية لمحمود المسعدي، وتناقش رحلة شخصية تقليدية نحو الخروج من المألوف، وقد بث فيها الكاتب أفكاره من خلال البطل أبي هريرة، معتمدًا على لغة مكثفة وكلاسيكية. في هذه الرواية يكتشف أبوهريرة نفسه وعالمه، الفردوس الأرضي الجديد، وينخرط في طقس اللذّة الجسديّة رفقة "ريحانة"، ويعلن أن ولادته الحقيقيّة بدأت من هذا اللقاء- الاكتشاف، ثمّ ينهمكان في سبر ملذات الجسد في فضاء وثنيّ ينطق كلّ ما فيه بالانتماء إلى الحياة ومتعها، ويتبع ذلك تغيّر في علاقة أبي هريرة وريحانة بالعالم الذي لم يعد مستقرا للسكون والاستقرار والطمأنينة، إنما أصبح مضماراً للارتحال والاغتراب واللذة والشك.  
وقد رأى توفيق بكار في المقدمة التي كتبها للرواية أنها، فيما يعرف، "أول نص أدبي يطرح بمثل هذه القوة وهذا العمق الفلسفي قضية الجسد في المجتمع العربي الحديث". ولم يكن المسعدي يعنيه تحليل التجربة التاريخية على حقيقتها بقدر ما كان يهمه أن يؤكد موقفاً ذاتياً متأزماً استوحاه من فلسفة نيتشه، التي ترتاب في "الكثرة" ارتياباً شديداً، ولا تؤمن بغير الأفذاذ الذين ترى فيهم مصادر القوة في التاريخ والروح في الجموع. 
تُعد رواية "أوراق: سيرة إدريس الذهنية" للعروي أقرب إلى السيرة الذاتية، لكنها مغلّفة بحكايات غير مباشرة عن المفكر وحياته وانفعالاته وتصوّراته، ففيها يحوّل تجربته الحياتية والفكرية إلى شكل سردي محكي، ومؤسس على أفعال وأقوال وأفكار موزّعة بين شخصية محورية وشخصيات أخرى عرضية تقدّم نفسها من خلال عملية السرد والحكاية. 
وتنطوي الرواية على ما يمكن عده تناصاً، حيث نجد فيها تداخلاً مع نصوص فلسفية تتمثل في قراءات وتعليقات إدريس لكتب المفكرين والفلاسفة، ونصوص تاريخية تحيل بالخصوص على جوانب من تاريخ المغرب، ونصوص أدبية نقدية تناقش قضايا الكتابة على نحو عام، ونصوص سينمائية تناقش أشرطة وتعلق عليها. 
وذهب أحد النقاد إلى أننا "إذا ما تأملنا المدلول العام في أوراق إدريس المبعثرة، نلاحظ أنه كان خلخلةً لكل شيء بحثاً عن معنى للذات الفردية والجماعية، ولكن دون جدوى. ولذلك كان الملفوظ في نهاية المطاف نفياً لكل شيء جسّده نفي الذات على نحو مأساوي".  
تركز رواية "عشب الليل" لإبراهيم الكوني على موضوعة الناموس، بوصفه منظومة الكون البدائية التي فُطر عليها الإنسان، مبينةً أن عبث الإنسان به والتآمر عليه فيه نهايته الحتمية مهما طال الزمن. 
ويبين الكوني أن خرق ناموس الطبيعة يختلف عن خرق ناموس الأعراف، فتحدي الطبيعة يودي إلى التهلكة، وهذا ما حدث حينما أنجبت فتاة من أبيها، سليل الظلمة "وان تيهاي"، بنتاً حظي بها أيضاً بسبب الشهوة الجامحة الناتجة عن أكله عشبةً منشطةً. 
ويقلّب الكوني في الرواية سؤال: ما الإنسان؟ على أوجه مختلفة تنضح بأصولها الفلسفية والنيتشوية تحديداً، فنقرأ قول الحكيم: "أنا سعيد بعمائي، لأنني بفضله استطعت أن أرى ما لا ترون و أحيا لا كما تحيون". 
تحكي رواية "سيرة حمار" لحسن أوريد قصة الشاب أذِربال، ابن بوكود يوليوس (المحاسب في بلدية مدينة "أليلي" عاصمة موريتانيا الطنجية، التي كانت احدى الأقاليم التابعة للأمبراطورية الرومانية). تربى أذِربال في أحضان مدينته قبل أن ينتقل إلى الحواضر الكبرى ليستكمل تكوينه، وينال حظاً وافراً من الفلسفة والمعارف اللاتينية، حيث كانت تستهويه الفلسفة اليونانية، ويحتك بكل أساليب الفكر بقرطاج وروما، ليعود بعدها إلى بلاده، وينخرط في الشأن العام، لكن خلفيته الفلسفية صرفت اهتمامه إلى البحث عن الحقيقة، سعياً منه لإبقاء ذاكرة زوجته وحبه لها، فيقع في ارتكاب المحرم مع زوجة عضو مجلس الشيوخ، ويتحول إلى حمار، بفعل شراب تخدعه به خادمة الزوجة، دون أن يفقد قدرته على التفكير. وقد جعله هذا التحول يعيش وضعاً مضطرباً موزعاً بين حالة إنسانية تستطيع أن تفكر، ووضع حيواني لا يقدر فيه على البوح بما يموج ويدور في فكره، ويؤلمه ألاّ يحسن التعبير عما يجيش في صدره من أحاسيس، ويمتلئ به من رؤى.  
وهكذا يعيش أذِربال، مراحل متعددةً ومليئةً بالمخاطر، حماراً عاقلاً ومفكراً وسط الناس، ويشرع في كشف خباياهم وأفعالهم ومنظوماتهم الفكرية والشعورية، وأساطيرهم وشعائرهم، من دون أن يدركوا أنه يلاحظ ويدوّن ويقدّم تأويلاتٍ لكل مشاهداته، ويتخذ من خلالها موقفاً من الوجود قبل أن يعود إلى أصله.  

سيرة حمار
بطل القصة أذِربال ينجذب الى الفلسفة اليونانية

تتسم رواية "آخر الأراضي" لأنطوان الدويهي بطابع فلسفي تأملي، محتشدةً بأسئلة الموت والحياة، من خلال عوالم تأملية ثقيلة يمتلئ بها الفضاء السردي. وتتمحور حول رحلة البحث في متاهة الأمكنة ومجاهل الذاكرة، عن سر اختفاء امرأة. وكان هذا الاختفاء لغزاً محيّراً يستحيل فهمه إذ لم يكن قسرياً قط كما أكّدت التحقيقات كافة بل هو اختفاء طوعي تعذّر تماماً إدراك أسبابه وظروفه. ومذ ذاك باتت لحياته غايةٌ واحدة: البحث عنها من دون توقف وهوادة. وتطل بشكل خاص على عوالم الموت، عبر تجربة بطلها مع وفاة عدد من الأصدقاء والأحباب. 
تتبدّى الفصول الاثنان والعشرون التي تشكّلت منها الرواية للقارئ اثنين وعشرين محطّة تأمّل في ما يمكن أن تكون وجهة حبيبة بطل الرواية وراويها، وفي موت عدد من الأصدقاء والصديقات موتاً مأسوياً وصاعقاً، بما ينمّ عن سطوة القدَر وغرابة المصير البشري الذي يغلّف الإنسان ويغلّه في آن. كما تشكّل هذه الفصول محطّات للكلام على الشعر والرسم وفلسفة الكتابة، التي تقوم على "العالم الداخلي"، عالم المشاعر والحدوس و"اللحظات المضاءة". 
في إسقاط واضح على الفوضى والعشوائية والصراع على السلطة في ليبيا بين العديد من الأطراف السياسية والمليشيات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، يتناول فرج العشة في روايته "سينسيوس وهيباتيا" الصراع الذي كان على أشدّه أواخر القرن الثالث الميلادي بين الرهبان المسيحيين المتشددين ومخالفيهم في العقيدة، خاصةً حملة الفكر الفلسفي بتحريض من رجال الدين، فهؤلاء الرهبان شبيهون بالحركات الإسلامية المتطرفة التي برزت بعد انهيار نظام القذافي لتغرق ليبيا في الدم والجريمة. 

أوراق
رواية أقرب الى السيرة الذاتية

تدور الرواية على لسان شخصيتها الرئيسة "سينسيوس"، وهو ابن مدينة "قورينا" (مدينة البيضاء الليبية الآن)، وكان عالماً مغرماً بالتاريخ والأدب، ومهتماً بالفلسفة اليونانية متمثلةً على نحو خاص في الأفلاطونية الجديدة.
والقضية الأساسيّة التي تطرحها الرواية هي الصراع الذي كان سائداً آنذاك بين رجال الدين المسيحي والفلسفة، إذ يتعرّف "سينسيوس" إلى المسيحيّة عن طريق إنجيل لوقا، فتشدّه عقيدة الخلاص، لكنه لا يستطيع أن يتخلّى عن شغفه بالفلسفة فيعيش ونفسه متلاطمة في مثلث العقل والقلب والروح.
تمتلئ صفحات الرواية بنقاشات واسعة حول الكثير من المواضيع الفلسفيّة التي تطرحها الفيلسوفة "هيباتيا" في دروسها وفي محادثاتها معه كما تناقش الرواية مواضيع عديدةً شائكةً عارضةً وجهة نظر الفلسفة والدين فيها، تاركةً الباب مفتوحاً للتساؤل والتأمّل فيها.
لقد بذل فرج العشة جهداً كبيراً في البحث والتنقيب في الوثائق والمصادر القديمة لكي يتمكن من الإحاطة بموضوع روايته، لكن الكتابة جاءت مفتعلةً في كثير المواضع ومثقلةً بالاستشهادات والأفكار بحيث بدت الرواية في بعض فصولها وفقراتها وكأنها دراسة حول ظواهر دينية أو فلسفية، يغيب عنها سحر السرد وحلاوته ومتعته.