'معلم السعادة' يتأرجح بين الخيال والواقع

المجموعة القصصية للكاتب القصصي محمد رشيد شمسي تعد محاولات تجريبية تحلّق على أخيلة مستنبطة أحيانا من المحيط الاجتماعي وأحيانا أخرى من خلال عملية تخيلية يستعين فيها برموز تقليدية تعتمد على استنطاق ما يحيط به من مؤثرات متعددة ولا يتورع الكاتب حتى في تقمّص أشياء صغيرة ينفخ فيها بعض الروح والأحاسيس.

صدرت المجموعة القصصية معلم السعادة للكاتب القصصي محمد رشيد شمسي. وهو أستاذ للغة الإنكليزية، كتب عددا من الروايات والمجاميع القصصية ومنها طائر التلاشي، والأبله الذي اسمه نون، ويد القمر، وحين يحلو لهم الخوف.

وهذه المجموعة (معلم السعادة) هي آخر أعماله، وتشتمل على عدد غير قليل من القصص، وضعها ضمن تبويب، يتكرر ولايتغير، وهو قصص ما بعد الحرب، مما يوحي بأن تلك الحكايات والقصص التي يتلوها تمضغ السنين والمراحل دونما تغيير لملامحها.

واختار الكاتب "معلم السعادة" لتكون عنوانا لمجموعته التي تتأرجح بين الخيال والواقع، في محاولات تجريبية تحلّق على أخيلة مستنبطة أحيانا من المحيط الاجتماعي، وأحيانا أخرى من خلال عملية تخيلية يستعين فيها برموز تقليدية، تعتمد على استنطاق ما يحيط به من مؤثرات متعددة، ولا يتورع حتى في تقمّص أشياء صغيرة، ينفخ فيها بعض الروح والمشاعر والأحاسيس، كما ورد في قصة الذبابة التي حملت القشة على جناحها، ولكنها أنقذتها من موت محقق  حينما احترق البيدر.ويستمر في استنطاق الحيوانات والحشرات والأحجار، وجعلها تعبّر عن أفكاره وآرائه، دون أن يلتقط أنفاسه في عملية إنضاج الفكرة، حتى أن من يتابعه يشعر بأن الكاتب يمتلك طاقة قصصية كبيرة، ولكنّه على عجلة من أمره في التخلص منها، بواسطة قذفها على الورق، ولذلك جاءت الكثير من قصصه مفتقرةً إلى الصقل والتمحيص والمراجعة، لأنني أعتقدُ - وقد أكون مخطئا – بأن التأني في الكتابة تكسب الأعمال الأدبية سمنة صحية وغنى في المدلولات.

لقد كتب محمد رشيد شمسي  قصصا بلسان الحيوانات كالثعالب والأفاعي والكلاب والأسود والأسماك وغيرها، وجعلها تمارس أفعالها بشكل يُحيلنا إلى كليلة ودمنة، ورغم طرافة الطرح والتناول ورمزيته، ولكن من باب أولى أن نسمي الأشياء بأسمائها، ونتعرض للمشاكل الاجتماعية المحيطة بنا، وهي معين لا ينضب، وتتيح للكاتب أن يبدأ حفرياته في عيوب الواقع وهمومه، فيرصدها فنيا، ويصنع من خلالها بعض النصوص القادرة على التغيير.من خلال استقراء الأرضية الهشة التي يعيشها العراقيون، والتقاط بعض خامات مظاهرها، ومن ثمة الاشتغال عليها، لبناء صرح قصصي قادر على النفاذ إلى اللب.

في "اللوحة" وهي إحدى قصصه، يتحدث عن خطف طفلة، ولكنّ الخاطف يتوقف عن اغتصابها، حينما يرى وشما في بطنها، ولكنّ توقفه عن فعل الفاحشة، لم يمنعه من قتلها كي يخفي جريمته، وقد أوقعنا الكاتب في دوامة شرسة من الأفعال التي تنتظر تفسيرا، سوى أنه يريد أن يرسم لنا شكل الفوضى وانعدام القيموضياع الطفولة.

في قصة أرسطو يطرح الكاتب مفارقة بين أقصى درجات الوعي الذي تمثله الفلسفة وبين المحيط الاجتماعي الذي يعيش نوعا من الخَدٓر العقلي، لذلك يبقى أرسطو الفيلسوف رهين السجن، وكأن الوعي معتقلٌ تحت قضبان الجهل والأمية، غير قادر على البوح بالعقلانية التي وجدها غريبة في محيط من الجهل المتفاقم. أما قصة النُصب فتكتنز بعمق المعاني فهذا التمثال الذي يمثّل هيمنة الموروث، يتحوّل في غفلة منه إلى أداة لمعايير مختلة، حيث يأتي شحاذ يضع ما يحصل عليه من فلوس يستجديها من الناس، ويأتي شخص آخر ليستولي على المال.

نحن إزاء حالة من التواطئ بين عناصر هشة تحاول أن تتحايل من أجل البقاء.

يلعب الكاتب على فكرة التناقض، بين الشيء ونقيضه، حتى أن القارئ يشعر أحيانا بأن بعض القصص تنتمي إلى اللاعقلانية أو السريالية،إنه اللامعقول الذي ينفلت من الخيال للاستهزاء من جدية الواقع وبشاعته،إنها الملهاة السوداء التي تجعل جنديا يفرّ من المعركة، ليجد زوجته وهي تمارس الخيانة مع أحد الضباط المرفهين الذين يمثلون فساد السلطة واختلال معاييرها.

 في قصة أخرى يقارن بين الفأس والعلك في مفارقة غريبة، قد يُفهم منها أن الفاس الذي يمثل وسيلة الإنتاج يبقى متعثراوعاجزا عن القيام بمهامه، أمام سطوة العلك الذي يرمز للرفاهية والعبث،إنه العبث الذي يبرز بين الفينة والأخرى بين سطور السرد.

وقد تكون قصة "موت رحيم" من القصص الأكثر نُضجا، والتي تتناول فكرة الامتلاك القهري للنصف الآخر، من خلال تلك المرأة التي تفضل الموت والفناء بدلا من العيش في ذُل الهامش، وذلك من خلال قتلها لزوجها بدس السمّ له، والاعتراف بالجريمة للقضاء، من أجل أن تُعدم وتنام بقربه، إنه الحب المجنون واليائس وغير العقلاني، ولكن الكاتب يضعه كموقف خاضع للنقاش.

أما قصته "معلم السعادة"، فتتحدث عن معلم يرتاد المقهى التي يتردد عليها عادة، فيجد شخصا حزينا، ولكن هذا الشخص يُعتقل من قِبَل شرطة المدينة بتهمة الحزن، إلى نهاية القصة، ولقد استطاع الكاتب أن يلوي عنق المفاهيم المتعارف عليها، من خلال جعله من الحزن حالةً نادرة، تستحق أن تُجتث ، لأنها ستثير العدوى، وهنا يصل الكاتب إلى أقصى حالات السخرية، وكأنّه يقتفي أثرالمبدع الراحل محمد الماغوط في اللعب على هذه المتناقضات الغريبة، وذلك من خلال تناوله الكثير من المفردات والظواهر،وفق منطق التخيّل الذي ينعتق من إطار الواقعية إلى اللاواقعية.

  ورغم الجهد القصصي الكبير الذي يبذله الكاتب محمد رشيد، في البحث عن غير المألوف من الأفكار ولكنه يفتقر إلى الاحتفاء بجمالية اللغة، فتأتي أحيانا دون مستوى الفكرة، وينبغي آن تكون البلاغة اللغوية في الأعمال القصصية شرطا، كي يستطيع السرد أن يلامس ذائقة القارئ.