ملاحظات عشر على تاريخ الأوبئة

شريف الغنام يلاحظ أن البشرية على مر العصور اجتاحتها عديد من الأوبئة والأمراض التي كان لها أسوأ الضرر.
الملاحظة الأول هي سيطرة مرض معين على امتداد حقبة زمنية معينة، ثم اختفاؤه ليظهر مرض آخر يكون له الأثر ذاته
حركة البشر وانتقالهم من مكان لآخر تساعد على تحول المرض ذاته من مرض محلي بسيط، إلى وباء عالمي

ينشغل الباحث شريف الغنام، المتخصص في علم الناريخ البشري، هذه الأيام بقراءة الترجمة العربية لكتاب "الأوبئة والتاريخ والمرض والقوة والإمبريالية" تاليف شلدون واتس، ترجمة أحمد محمود عبدالجواد، وهو صادر عام 2010 عن المركز القومي للترجمة في مصر.
ومن خلاله تشير إلى أن البشرية على مر العصور اجتاحتها عديد من الأوبئة والأمراض التي كان لها أسوأ الضرر، إذ تسببت في حصد أرواح ملايين البشر عبر التاريخ.
 ويضيف بأن المتأمل لتاريخ الأوبئة يجد ان هناك عناصر متشابهة لهذه الموجات التي كانت تضرب، إما بصورة عالمية أو محلية، بحيث يقتصر تأثيرها على إحدى المناطق في أمد قد يطول أو يقصر.
 ويذكر أن الأوبئة ذاتها ربما تتكرر في المنطقة نفسها، أو تضرب منطقة أخرى مجاورة.
وهي قد تتشابه في الأسباب والنتائج وفي أساليب المواجهة، وفي المدة التي يقضيها الوباء نشطًا، وفي عدد المرات التي يجتاح فيها الوباء، الذي يظل علي مدى قرون يظهر ويختفي ليحصد في كل مرة أرواحًا جديدة، حتى تمكن العلم مؤخرًا من أن يقضي على بعضها، أو يجد علاجًا من أخرى، أو يقف عاجزًا تمامًا في مواجهتها.
والملاحظة الأولى التي تسترعي انتباه شريف الغنام كمتأمل لذلك هي: سيطرة مرض معين على امتداد حقبة زمنية معينة، ثم اختفاؤه ليظهر مرض آخر يكون له الأثر ذاته، والقدرة على حصد الأرواح؛ فقد سيطر مرض "الطاعون" على العصور القديمة، والوسطى، ثم ظهر في شكل وباء عدة مرات، في مناطق شتى من العالم، فضرب منطقة الشرق الأدنى مثل: "طاعون جستنيان" 541، و"طاعون عاموس" 640.
وخلال العصور الوسطى ضرب وباء "الطاعون" أوروبا، ومصر، والشرق الأدنى، بشكل مخيف فأباد الملايين من البشر بداية من عام 1348 وحتى عام 1657، كما ظل يظهر بصورة وبائية علي فترات متقطعة حتي القرن التاسع عشر.
 ومع اكتشاف العالم الجديد، سيطر وباء "الجدري"، وكان من الأسباب الرئيسية لذلك لفناء سكان قارتي أميركا الأصليين خلال الفترة من: 1518 وحتى 1720، وكذلك ظهر مرض "الملاريا" بشكل وبائي بداية من عام 1647 وحتى 1928، وهو الذي ضرب مناطق شتى من العالم ومنها: القارة الأميركية، ثم جاءت "الكوليرا" التي ظهرت في القرن التاسع عشر من عام 1817 إلى 1920، ثم فيروسات "الإنفلونزا الإسبانية" من: 1918 وإلى الآن.
  وليس معنى هذا أن انتشار هذه الأوبئة اقتصر على هذه التواريخ فقط، ولكن هذه الفترات كانت هي الأشرس في تاريخها، بل إن تاريخها يمتد إلى ما قبل ذلك.
والملاحظة الثانية: أن هذه الاوبئة تنتشر بعد حروب، كما في "طاعون عاموس"، الذي تفشى بعد الفتوحات العربية للشام، و"الجدري" بعد غزو الإسبان للأميركتين، أو بسبب غياب النظافة، وانتشار القذارة في الشوارع، كما حدث مع "طاعون الدملي" في أوروبا 1347.
 أو بسبب صرف المخلفات البشرية في الأنهار، كما في انتشار "وباء الكوليرا" في إنجلترا 1831، أو مع انتشار "فيروسات الإنفلونزا الإسبانية" 1918 أثناء الحرب العالمية الأولى.
والملاحظة الثالثة: أن حركة البشر وانتقالهم من مكان لآخر تساعد - ليس فقط على انشار المرض - بل على تحول المرض ذاته من مرض محلي بسيط، إلى وباء عالمي.

فقد كان انتقال التجار من البحر الأسود إلى شمال إيطاليا سببًا في انتشار "الطاعون الأسود الدملي"، كما أدى غزو الإسبان للأميريكتين إلى انتشار "الجدري"، كما سبق وأشرنا، وتسبب نقل الأفارقة للعمل كعبيد في الأميريكتين في انتشار "وباء الملاريا". كما أن الاحتلال البريطاني ساعد علي انتشار "وباء الكوليرا" في كل من: الهند ومصر وإنجلترا؛ إذ يبدو أن الانتقال - سواء السلمي أو القهري - قد ينقل أمراضًا لا تمتلك الشعوب المنتقلة إليها مناعة ضدها، مما يحولها من أمراض محلية في موطنها الأصلي، الى أوبئة فتاكة. 
والملاحظة الرابعة: أن الشعوب دائمًا ما تتمسك بعاداتها وتقليدها وتقف في وجه أي إجراء مخالف، لما تعتقده حتى وإن أدى إلى هلاكها؟! وهي على اختلافها؛ شرقية كانت أم غربية، دائمًا ما ترجع الأمر إلى أسباب دينية، أو عقدية، علي اعتبار أن الوباء ابتلاء من عند الله، وأنه جاء كانتقام من البشر على معصية إرتكبوها أو إثم إقترفوه، أو بسبب أشياء خارقة للطبيعة، أو إنه لكي يرفع الله البلاء فلا بد من إرضائه.
 فالمرضى نوعان: إما شياطين يستحقون الغضب الذي حلَّ بهم، وإنهم هم سبب البلاء، أو هم شهداء. وغالبًا ما صب الناس غضبهم علي المرضى وذويهم، وأدى ذلك إلى التنكيل بهم في مشاهد مروعة.
والملاحظة الخامسة: أنه للحد من انتشار أي وباء، فغالبًا ما تتخذ السلطات إجراءات وقائية مثل: الحجر الصحي، عزل المرضى، عزل مدن بأكملها، أو الإغلاق التام لها، وإنشاء معازل صحية بعيدة عن المدن، ودفن الجثث في مقابر جماعية، وطمسها بالجير الحي كي لا ينتشر الوباء من خلالها، وكذلك حرق ملابس المتوفين. 
وقد فرضت هذه الإجراءات في أغلب حالات الأوبئة. وكانت قد بدأت في المشرق العربي، ووضع لها العلماء العرب الأسس والقواعد، وقد استخدمت بشكل موسع وحازم في إيطاليا منذ عام 1450.
والملاحظة السادسة: بعد كل موجة من الوباء، كانت هناك العديد من الإجراءات والقوانين تلزم علي اتباع قواعد النظافة والصحة العامة؛ من ضرورة تنظيف الشوارع وعدم إلقاء المخلفات البشرية، والماء القذر في الشوارع، ولكن هذه القوانين أخذت عدة قرون حتى طبقت.
وقد أنشأت إنجلترا نظامًا للصرف الصحي ينقل المياه عبر أنابيب خارج المدينة حتى تمكن العلم الحديث من معرفة ماهية الجراثيم والميكروبات والفيروسات المسببة لهذه الأمراض وكيفية الوقاية منها.
والملاحظة السابعة: كان لهذه الأوبئة أثر على التركيبة السكانية الديموجرافية، إذ أدت إلى تغير شكل المدن الكبرى، كما حدث مع مدينة "القاهرة" التي أفني أغلب سكانها أكثر من مرة، إلى الحد الذي جعل سكان مصر الذين قاربوا عشرين مليون نسمة قبل طاعون 1347 يقلون إلى أقل من ثلاثة ملايين قبل حكم محمد علي. كما أدى إلى القضاء على أغلب السكان الأصليين في الأميريكتين وجعلهم أقلية في وطنهم.
والملاحظة الثامنة: استغلت السلطات هذه الويلات في تدعيم سلطتها، وبسط نفوذها على الأقاليم التي تحكمها والتخلص من معارضيها، والتنكيل بهم، كما حدث في مصر المملوكية والعثمانية، والأسر الحاكمة في إيطاليا وإسبانيا كما فعل الاحتلال البريطاني في مستعمراته فيما بعد. 
والملاحظة التاسعة: لا يمكن الوثوق تمامًا في الأرقام الواردة في كتب التاريخ عن أعداد الضحايا، فكيف يتم هذا في غياب نظام إحصائي في غابر الزمان، يمكن الوثوق في أن أغلب سكان العالم قضي مثلا في "الطاعون الاسود"، أو أن 50 مليون ماتوا بسبب "الأنفلونزا الإسبانية" أثناء الحرب العالمية الأولى مع انهيار كامل للمنظومة الصحية وانشغال العالم بويلات الحرب؟
والملاحظة العاشرة: الإيجابية الوحيدة هي تقدم علوم الطب ونظرياته، والاعتماد على البحث والتجريب بدلًا من النظريات اليونانية القديمة التي سيطرت على علوم الطب لقرون.