ملامح وإلماحات (3)‎

تتعامل الدكتاتورية المستترة خلف السلطان البواب مع حواس وحاجات المواطن.

ما دمت أرصد الدكتاتورية كحالة عضوية، أو لنقل إنها حالة مرضية عضوية، تصيب الجسد المادي، أي إنها تصيب المواطنين بحواسهم وحاجاتهم الجسدية. ما دمت أرصد النظام الحاكم وفق هذا التوصيف فلِمَ لا أرصد المكون العضوي في البلاد، وأقصد رصد حالات المواطنين أنفسهم، ما يطالهم مما نراه من تصرفات وسياسات دكتاتورية يرتكبها النظام الحاكم..

عليَّ أن أقول أن أي حالة إضرار بالمواطن من أي مؤسسة في الدولة لن تُعتبر دكتاتورية إن كانت خارج قوانين وسياقات العمل الوظيفي الجيدة والمريحة والتي أقِرَّت رسميًا، ولن تُعتبر دكتاتورية أن رُفِضَت من الجهة الحاكمة فأتُخِذت الاجراءات اللازمة للمعاجلة والمساءلة، كما وينبغي أن تتوفر آليات واضحة وفعالة وسريعة لتدارك المخالفات الضارة بالمواطن.

ينبغي أن يتوفر اجراء حقيقي فعال ومحدد لكل مخالفة تصدر من أي مؤسسة حكومية، ويكون الاجراء عامل بشكل آلي يُحدِد الحدود لكل عمل وظيفي من اجراءات ومعاملات ووقت، وللتوضيح؛ يعمل الإجراء الآلي وفق محددات للانجاز والتعامل، فالمواطن الذي يريد انجاز معاملة في الدائرة "س" ينبغي أن يتوفر في مسار إنجاز معاملته إجراء آلي يتحرك عند تجاوز الضوابط والحدود التي وضعت لانجاز المعاملة من مدة محددة وطريقة معينة، وينبغي أن تكون المدة والطريقة سلسلة مريحة، فإن لم يتقيد موظف أو عدة موظفين بضوابط انجاز المعاملة اشتغل الإجراء الآلي.

إن راجع مواطن أحدى العيادات وتبين احتياجه للعرض في مستشفى رئيسية ينبغي توفر سيارة اسعاف مناسبة، واجراءات رشيقة، لنقله، وينبغي استقباله في المستشفى الرئيسي بإجراءات مريحة رشيقة، فإن اضطر المواطن لمغادرة البلاد لتلقي العلاج في دولة أخرى يتم توثيق اجراءات المستشفى في تلك الدولة لتُقارن مع المستشفى الوطني الذي استقبل المواطن أول مرة للوقوف على اسباب التخلف الطبي.

قد يصلح هذا الرصد كمساعد للحكومة ما لم يكن في نيتها ومساعيها التحول لنظام دكتاتوري، ومن مبدأ حسن الظن بالحكومة والذي سأعمل به في هذا المقال فقط وبشكل محدود نقتطف من كلمة السيد رئيس الوزراء في عرضه لإنجازات حكومته خلال نصف سنة ما يوثِق التزاماته وحكومته أمام الشعب، وستكون المقتطفات قصيرة:

- "هذا التقرير ايضًا سبقه تقرير في الأيام المئة الأولى من عمر الحكومة؛ هو تأسيس للمتابعة الشعبية والبرلمانية لما تنجزه الحكومة، وأداة لتمكين هذه الجهات من تقييم مستوى الآداء، وتقويم لكل مفصل من مفاصل الأجهزة الخدمية"

- "نحن انطلقنا برؤية واقعية: ماذا يحتاج البلد.. ما هي أولويات المواطن.. هذا هو أساس عملنا.. لم نتحدث عن خطط شاملة ومتشعبة بقدر ما كنا نركز على الأولويات، وبنفس الوقت نعمل في كل المسارات الدولة بنفس الأهتمام، لكن الأولوية والتركيز لمضامين وعناوين خمسة والتي تتمثل بتخفيف البطالة والفقر وتحسين الخدمات ومكافحة الفساد الإداري والمالي وبنفس الوقت مواصلة الإصلاحات الاقتصادية".

نكتفي بهاذين التعهدين من لسان رئيس الحكومة.

أنا إنما اوثق هذه التعهدات والالتزامات لتكون فيما بعد حجة على صاحبها.

للأسف؛ يتعرض المواطن لأنواع من الإجراءات الروتينية المُتَّبَعة في دوائر الدولة بعضها يُسبب له الإرهاق الجسدي والنفسي، وبعضها متاهات متفرعة تجر المواطن الى ماراثون طويل يضر بصحته ووقته وجيبه وكرامته، وأنا كما كثير من المواطنين تعرضنا لجور الإجراءات الروتينية في دوائر الدولة.

من أولويات المواطن تيسير معاملاته ومراجعاته في دوائر الدولة، وما يتلقاه من خدمات حكومية، فإن تعقدت المعاملات، وتلكأت الخدمات، وصار التعقيد والتلكؤ عادة لا تُبدَّل، وتكرار لا ينتهي، تضرر المواطن في حواسه وحاجاته، وبالدوام على الإضرار به يتعرض لأنواع من درجات التعذيب والهوان والتنكيل بالصحة والإخلال بالحالة النفسية، وهذه ممارسات وسياسات تندرج تحت عنوان: الدكتاتورية العضوية.

خذ مثلاً: متقاعد أفنى عمره في العمل الحكومي، وبعد عقود أحيل الى التقاعد، وقد غادره الشباب بنضارته وتماسك الصحة الجسدية، فلما صار في حال التقاعد أعطي مرتبًا أقل مما يستحقه، لاسيما وكبار السن يحتاجون الى رعاية طبية وأدوية ومراجعات للطبيب متكررة وأجهزة قياس الضغط والسكر والعمليات الكبرى، وكثير من الاحتياجات التي تطرأ بحكم التقدم بالعمر، ولكن النظام الحاكم يُخصص للمتقاعد مرتبًا لا يكفي لتغطية كل هذه الاحتياجات وغيرها، وبالنتيجة الواقعية أضر النظام الحاكم بمواطن بلغ سن العجز والمرض، وهل من تجسيد للدكتاتورية العضوية أنصع وأوضح من هذا..

هل لدى المواطن المتقاعد أولوية غير مرتبه والرعاية الصحية وتسهيل معاملاته؟

ولكن المواطن المتقاعد يتكبد الأذى والضرر حين يُجبَر على مراجعة دائرة التقاعد في منطقة الشواكة (كمثال)، فأنا وبأم عيني أبصرت امرأة كبيرة السن ترتقي سلالم البناية وفي ظاهر كفها غُرِست كانيولا، ورجل مُسن تعرض لوعكة عند مدخل البناية وما تلقى أي إسعاف أو إهتمام، رغم أن بناية دائرة التقاعد تخص كبار السن.

اوردنا مقتطفين من تعهد رئيس مجلس الوزراء بخصوص أحقية الشعب في أداء الدور الرقابي واولويات المواطنين في الحقوق وخدمات الدولة، ولكن؛ هل يتمكن السوداني من إنفاذ تعهده أم لا؟

يقول النائب كاظم الصيادي: "الكل يعلم؛ دولة القانون زائد العصائب دولة.. دولة القانون ناقص العصائب لا دولة".(1)

في المقال السابق تحدثت عن "البواب" وهو النائب أو المسؤول أو أي منصب وعنوان حكومي يعمل كواسطة بين المواطن والحاكم بدل عمل مؤسسات الدولة الرسمية، فتعقيد انجاز معاملات المواطنين والإضرار بهم عبر مؤسسات الدولة الحكومية يدفع المواطن للجوء الى البرلماني والوزير والمسؤول ليُسهِّل عليه انجاز معاملته أو تلبية طلبه، وقلنا أن هذه النوع من العمل أو الدور هو كعمل البواب؛ بواب السلطان، فبدل أن تكون إجراءات انجاز معاملات المواطن أو تلبية حاجاته سهلة رشيقة محددة، تعمل دوائر الحكومة على تعقيد إنجاز المعاملات والتنكيل بحاجات المواطن، فيهرع المواطن الى البواب يرجوه ويتوسله أن يساعده، والبواب حصل على صلاحيات من قِبل السلطان، وهذا بعينه نوع من الدكتاتورية، وكذلك هناك الدكتاتورية بالتكليف، أي تكليف شخص بوظيفة رئاسية بالوكالة موكلًا عن المنتظم الدكتاتوري، وهذا ما أشار له كاظم الصيادي.

إذن؛ البواب يعمل للحاكم، والحاكم بواب المنتظم الدكتاتوري، والمنتظم الدكتاتوري بواب قوة إقليمية متغلغلة في الدولة، وقد تكون القوة الإقليمية بواب قوة عالمية، وقد تكون القوة العالمية بواب قوة ما.

من المؤكد أن السلطان-الحاكم-رئيس سلطة إن كان بواب لدكتاتورية مستترة فليس له من القرار إلا المصادقة، هو موظف مكلف، بواب، أو لندعوه السلطان البواب.

ما يهمنا هو تعامل الدكتاتورية المستترة خلف السلطان البواب مع حواس وحاجات المواطن، وللتنويه: لا تدل مفردة أو التوصيف "مستترة" على الخفاء أو الاختباء التام، فهي مستترة لأنها تتمترس خلف السلطان البواب وتعمل عن بعد وبطريقة غير مباشرة في إنفاذ قرارات وسياسات تخدمها، أي أنها لا تحكم بشكل مباشر، ولكنها معروفة للشعب.

لقد تحول الفاسدون، سُرّاق المال العام، الذين أضروا بكل مؤسسات ودوائر الدولة الى دكتاتورية مستترة، صاروا يديرون الدولة عبر وكيل، سلطان بواب، فإذا ما نجحت هذه الرؤية في إثبات ضرر الدكتاتورية العضوية فإن نتائج إدارة وسياسة هذه الحكومة لن ترفع الضرر عن المواطن، بل ستضره أكثر، وكل تعهدات رئيس مجلس الوزراء ووعوده لا تعدو أن تكون مسكنات وجرعات تخدير تُزرق في جسد يخضع لعملية جراحية فاشلة أو مميتة.

إشارات

(1) يوتيوب: رسالة بالألغاز من كاظم الصيادي لدولة القانون والعصائب.