ملامح وإلماحات (2)‎

الدولة العراقية تمعن في تبني عقيدة ترك الأمور إلى البواب، رمز دكتاتوريتها، سواء أكان وزيرا أو زعيما أو نائبا.

يميل الإنسان غريزيًا الى تكوين أو تجميع مجموعة وترأسها، أن يكون أبا أو قائدا أو رئيس مجموعة أو قبيلة، وهذا النزوع الغرائزي ظل في طبائع الإنسان حتى بعد اكتسائه بالتحديث والرُقي، وحتى في واقع تصاعد تطور الدولة، وحتى في ظل الدولة الديمقراطية المؤسساتية حيث علاقة الحاكم مع افراد الرعية تحولت الى علاقة حكومة مع مواطن عبر مؤسسات. فالزعيم الأوحد، الملك الراعي، أب العائلة أو قائد المجموعة أو القبيلة ذاب في تصاعد تطورات المجتمع البشري الى أن تحول الى موظف يستقل دراجته الهوائية ليصل الى مبنى الحكومة التي هو رئيس وزرائها، ورغم ذلك؛ ظل الإنسان ينزع وبتمظهرات متنوعة الى ذلك الدور المتعالي؛ زعامة فردية تتصل بالناس بقوة وهيبة مميزاتها، فواحدة من أشهر الديمقراطيات الحالية تجرأ رئيسها الخاسر انتخابيًا وبسواعد أنصاره بإقتحام مبنى الكونغرس والاشتباك مع القوة الأمنية المكلفة بحماية المبنى، وهذا الحدث مؤشر بليغ على خطورة الدكتاتورية في أي بقعة من العالم، فماذا لو كانت بقعة ترفع عنوان الديمقراطية، وتحت السارية ما زالت الدكتاتورية تنبض.

جرت تغييرات في الأنماط التي تعمل بها الدكتاتورية، وواحدة من المستجدات التي شهدها عراقنا ظهور وظيفة النائب أو المسؤول "البواب"، فهو يتقاضى مرتب من الدولة ليؤدي عملًا مناطًا به، ولكنه يتجاوز مساحة عمله ليعمل في عملية تعزيز جنبة دكتاتورية تصب في قبضة الإستبداد المُستَحدَث، وهذه عملية تجري على قدم وساق في واقع علاقة النظام الجديد بالمواطنين.

من المنطقي أن يميل الحاكم، المسؤول الحكومي، البرلماني، الجنرال العسكري؛ في بلاد مثل بلادنا الى التسلط وفرض السطوة، فالموروث الإجتماعي والسياسي والديني بُني على الأبوية والدكتاتورية، البُنى التي تعايش معها الناس لقرون، فهل يزول تأثير القرون بقوة عقدين؟!

يقف أحد افراد حاشية الحاكم على الباب، يُقسِّم الطابور الى وجبات للمثول في حضرة الزعيم لعرض الطلبات والحاجات، والبواب يعطي مواعيد لكل فرد أو مجموعة ترغب بلقاء الحاكم، وقد يسمح له الزعيم بأخذ معلومات من المراجعين حول طلباتهم، أو قد يسمح له بتلبية انواع من الطلبات يعتبرها الحاكم غير ذات أهمية كبيرة، وهكذا يصير البواب إمتداد للزعيم، لسلطة الزعيم، وبتصرفات معينة يُكثِّف من قوة هيبته في نفوس الناس، فيتكالب عليه الناس تزلفًا وتملقًا، وبدوره يُكثِّف أكثر من صورة سلطته في أعين الناس فيزداد الناس اليه تملقًا يحيطونه بتوسلاتهم ونظراتهم المتوسلة وطلباتهم، وهذا الدور موجود قديمًا وحديثًا، فالبواب القديم الذي حرص على إقناع الناس بأنه صاحب شيء من السلطة، صار مسؤولا أو وزيرا أو برلمانيا له صلاحيات تذليل المصاعب التي تعرقل إنجاز معاملات الناس، المواطنين، والبواب الجديد يحرص أيضًا على التواصل المباشر بالمواطنين لتتكثف صورة سلطته في نفوسهم، ولهذا يحرص ايضًا على انجاز مطالب الناس دون مكاتب خاصة بمطالب المواطنين أو موظفين مختصين يساعدون المواطنين في إنجاز معاملاتهم، وغايته أن تترسخ عند مراجعيه ضرورة وجوده هو لقضاء حوائجهم.

هذا النزوع للزعامة عند الوزراء والمسؤولين والبرلمانيين يضعنا على ضفاف الدكتاتورية، يُقربنا منها، يُهيئ النفوس لتقبِّل حصر انجاز معاملات الناس في واحد وحاشية، وهذا الحصر يُهمِّش مؤسسات الدولة والكرامة التي تنمو مع نمو الثقافة الديمقراطية، فلا تعود الدولة مؤسسة تُنجِز معاملات المواطنين وفق سياقات موحدة، رشيقة، مُستحدثة، لا يضطر فيها المواطن لطرق ابواب افراد، أو التوسل ببواب، وهذا الذي أتحدث عنه ليس بتنظير أو نقل عن مواطن، فأنا من تعرَّض لهذا النوع من السياسات البوابية.

في صبيحة يوم الاربعاء 14 حزيران 2023 توجهت بصحبة أمي وزوجتي الى دائرة الجوازات والأحوال المدنية قرب مستشفى العلوية القريبة من ساحة الأندلس، وكنت اريد نقل نفوسي وأمي وزوجتي من محافظة ميسان، قضاء المجر الكبير الى بغداد، وعندما بلغت الدائرة وجهني شرطي عند الاستعلامات الى طريقة التقديم وقد بلّغني أن التقديم المباشر ألغي ولزم أن يجري عبر موقع الكتروني، وزودني بقصاصة مستطيلة صغيرة فيها رابط الموقع، قفلت راجعًا الى منزلي في ذاك الصباح الصيفي الحار، معي أم ناهزت السبعين، وزوجة بوضع صحي غير مستقر.

هل اتحدث عن دكتاتورية في عرض هذه القصة، وهي قصتي؟ لا؛ أنا اتحدث عن ضفاف الدكتاتورية، فدكتاتور ماكر يستطيع أن يتسلق جسد الدولة التي على هذه الشاكلة ويمكر بمواطنيها المُقزّمين تعضده مؤسسات تُرِهق المواطن وتتعامل معه بإزدراء، فيرضخ لسياسته مواطنين لم يشهدوا انفصالًا واضحًا بين مؤسسات الدولة الدكتاتورية والدولة الديمقراطية.

لقد وصفنا في المقال السابق الدولة الدكتاتورية والدكتاتور على أنها وأنه من يضر بحاجات المواطن، وما أصفه هنا هو إضرار بالمواطن وإرهاقه عبر احتياجاته.

بعد يومين توجهت مع أخي الى مكتب صغير ليساعدنا في التقديم عبر الموقع الإلكتروني، وما إن بدأ صاحب المكتب بالولوج الى الموقع حتى برقت عيناه بفكرة؛ وجّهنا الى مراجعة نائب برلماني يستقبل الناس في منزله، وعدّد فوائد مراجعته وأن التقديم عبر الموقع أقل فائدة وسنعاني من تأخير أو إهمال.

ولأن الإنسان يجري خلف حاجاته أمتثلت للنصيحة، وعند البحث عن بواب للبواب تمردت نفسي عليّ، ووبختني، وواجهتني بضميري، ووجهت لي تهمة النفاق، إذ كيف لمن يدعو ويُعلِّن ويكتب بالضد من الرجعية والعبودية والسياسات الدكتاتورية الوقوف على عتبة البواب وتقديم فروض التوسل والخنوع له. تراجعت عن اكمال الطريق الى عتبة البواب، وفضلت السفر الى ميسان وتحمل المشقة وإجراءات الدولة الورقية ودوائرها العتيقة المتأخرة.

لو أن مواطنًا لا يعرف القراءة والكتابة أراد إنجاز معاملة كالتي اسعى لإنجازها؛ نقل سجل الأحوال المدنية-النفوس من محافظة بعيدة الى محافظة سُكناه، وعندما راجع الدائرة التي راجعتها زُوِد بقصاصة مستطيلة فيها عنوان موقع الكتروني من قِبل شرطي يقف عند باب الدائرة وبقربه يجلس ضابط برتبة عقيد، وهذا ما جرى معي، فكيف لهذا المواطن الأمي العمل بالقصاصة وكيف له فهم الإجراءات المستحدثة ولماذا لا تقوم نفس الدائرة بتسجيل طلبه الكترونيًا وأخذ رقم هاتفه ليتم تبليغه بتأريخ المراجعة اللاحقة، ولماذا يتجشم كبار السن والمرضى عناء هكذا مراجعات مرهقة، مُضرة.

لماذا على المواطن أن يقبل صاغرًا التجرد من حقوقه البسيطة، وأن يُطالب بها مجبرًا عند عتبة بواب، يبذل ماء الوجه، ويتذلل، وعليه القيام بـ "ركضة" لإنجاز معاملة، ركضة تُفرَض عليه في دائرة النفوس والتقاعد والطابو وووو...

أليست الديمقراطية تخليص المواطن من الاجراءات المرهقة المهينة، وتسهيل الاجراءات بعمليات حكومية تبسيطية سهلة..

لماذا اتكبد مراجعة البرلماني في منزله، وألهث خلف الوزير، وأتوسل برئيس الوزراء عبر الموبايل، وأقسِّم كرامتي بين المسؤولين، وأجبَر على الترجل من السيارة رغم وضعي الصحي المتأزم لأتوجه الى نافذة ضيقة في سيطرة حكومية لأقدم هويتي الى منتسب ليُدخِل ما بها من معلومات في حاسوب للتأكد من أمر يخصني لا اعرف ما هو، ولماذا لا تتكفل المجالس البلدية بإنجاز معاملات المواطنين وتسيير موظفين الى منازل المعاقين والمرضى وكبار السن والأطفال والفقراء لإنجاز معاملاتهم الضرورية، ولماذا أرجع مرارًا الى محافظة التولد قاطعًا مئات الكيلو مترات لإنجاز معاملة، فهل ميسان اقليم مستقل أو شبه مستقل عن بغداد، وهل دولة الدوائر الورقية عقيدة حكومية مقدسة؟