"منازل الوجدان" شعرًا ولوحة

ديوان مهدي غلاب يضم قصائد عمودية وشعرا منثورا. مع تنويعات في البحور، ويدل على أن الشاعر توخى التوزيع البصري. 
الصور البعيدة يحملها الفنان المهاجر معه وهو يسافر عبر الزمان وعبر المكان
الشعر عماده الصورة يرسمها ويشكلها الفنان باللغة سواء كانت واقعية أو ذهنية

ضمن المعرض الجماعي والجهوي للفنون التشكيلية برواق الفنون ببن عروس إدارة نزيهة الصولي، وقع عرض مجموعة من أعمال الشاعر والفنان التشكيلي المعاصر مهدي غلاب وهي: قيثارة الماء، دكاكين الشوق، مدينة عدد 19571، ومن خلال لوحة "منازل الوجدان" وهي لوحة تحمل نفس عنوان مجموعته الشعرية التي قمت بتقديمها بالمناسبة في المقهى الثقافي الصيفي الملتئم بالرواق .. حيث شارك مهدي غلاب كضيف شرف من خلال  لوحاته وديوانه.
ويتضمن الديوان قصائد عمودية وشعرا منثورا. مع تنويعات في البحور، ووقع توزيع الأبيات والكلمات على غير طريقة الصدر والعجز في أغلب القصائد مما يدل على أن الشاعر توخى التوزيع البصري. 
غلافه الخارجي من تصميم المؤلف، وتتخلله رسومات: هي أربع  لوحات عبارة عن أشباح مدينة ومنازل قديمة رسمت باللون الرملي والبني. لم تبرز فيها خطوط الأشكال وفقدت الألوان بريقها، ولم تتنوع ولكن المباني تتميز بالعلو وتعدد الطوابق مع مبان أقل علوا وارتفاعا، تحيل إلى الحنين والذاكرة والشغف بحكمة الماضي وهاماته يشع بنوره، وبدا بصور هلامية متفسخة.
وبما أن مهدي غلاب شاعر وفنان تشكيلي فهذا يدل على ثراء ذاكرته البصرية  وعلى تنوع أدواته في التعبير عن الصور عبر اللغة وعبر الألوان المائية والدهنية ورسم الأشكال وخاصة تلك الصور البعيدة التي يحملها الفنان المهاجر معه وهو يسافر عبر الزمان وعبر المكان، فالشعر عماده الصورة يرسمها ويشكلها باللغة سواء كانت واقعية أو ذهنية، ولكن ينسجها ضمن توليفة وعلاقات يولد منها معانيَ ومقاصدَ مختلفة. باستعمال الريشة واﻷلوان والأشكال، يستبطن اﻷفكار والحالات والخيالات والقصص والانطباعات تتجسد عبر أساليب وتقنيات متفردة. 
اللوحة في علاقتها بالصور الشعرية
تخللت ديوان "منازل الوجدان" أربع لوحات تتنافذ مع الحالات الوجدانية التي مرّ بها الشاعر الرسام، تضاف إليها لوحة الغلاف كعتبة نصية لها دلالاتها وإيحاءاتها. وكان المعنى أكثر تجسيما وتصويرا من خلال اللوحات وهي تنفذ إلى الصور اللغوية الخافتة رغم حدة التعبير عن الحالة الوجدانية. إذ هي  تتنافذ على بعضها البعض، وتنفذ إلى الذاكرة. لها قدرة على أن تصور وترسم ما رسخ من سمات ثقافية واجتماعية تترجمها بعض الصور المتناثرة.
لوحة الغلاف تجسد بناءات أسمنتية رصاصية اللون، يتخللها لون أبيض كلون الجير والثلج، وزرقة طفيفة تبعث النور في فتحات الجدران العمودية تضعنا أمام واجهة بناية مدينة حديثة بينما لوحات الديوان اﻷربعة ترسم ملامح دور قديمة. فاللوحة الأولى تبدو فيها صورة امرأة أمامها بنت صغيرة ووراءها طفل يتسلق عمودا في طريقهم إلى باب مقبب قد يكون حماما أو دارا عتيقة.
في اللوحة الثانية طريق يفضي إلى دار قديمة أبوابها ونافذتها متآكلة، اللوحة الثالثة وسط دار  فيها أكثر من فضاء ترابي تتوزع بين فضاء خاص بالحيوانات وآثار قوائمها وفضاء أصغر هو مدخل وممر. في اللوحة الرابعة حي قديم ببناءاته العمودية العالية ألوانه طينية ورملية تنشط ذاكرتنا، وهي تتمثل صورا مشابهة مررنا منها وتحل أقفال العديد من الصور خلف وداخل تلك البناءات العالية وطبيعة العلاقات بين الناس الذين يجمعهم طريق واحد وعتبة واحدة ودرج واحد.
ندرك من خلاله جمالية المكان وما تعنيه للمبدع ولنا. نحن أمام لوحات تنبري فيها صورة حي قديم ومنزل قديم من الداخل والخارج وباب حمام مقوس وقد حضرت في لوحة اﻷولى صورة امرأة وابنيها، وفي اللوحة الثالثة صورة خروف إلا أن الألوان لم تتغير كما جاءت اﻷشكال شبه متفسخة وغير واضحة تماما إلا أنها تحملنا إلى حالات وجدانية وحنين لمدينة أو قرية قديمة في مدينة تبدو بناءاتها إسمنتية.
بين صورة الغلاف واللوحات الأربعة تتغير الرسالة عبر اللون وتتغير البيئة بألوانها. فالألوان في لوحة الغلاف واضحة مشعة داكنة بينما ألوان اللوحات باهتة وكأننا بصدد تصفح أوراق كتاب قديم تفسخت بعض حروفة وتحولت إلى ما يشبه لطخات متفرقة، إلا أن ذلك لم يحجب الارتفاعات وما سطره الرسام باﻷدوات الهندسية دون أن يجعل الخطوط بارزة. في حين أن قيس المسافة التي تنفذ بنا إلى ذواتنا تنفذ بنا كمتلقين إلى الدور والتصاميم القديمة المخزونة في ذاكرتنا والتي تتراءى في مرايا هذه اللوحات. وبذلك يكون مهدي غلاب التشكيلي قد نفذ بنا إلى فضاء الحنين والخشب والتراب والأرض والأصل والاستقرار من خلال اللون البني.
إن هذا الموروث الوجداني مثل أعمدة أثرية ثابتة إذ كتب في منازل الوجدان في اﻷقصودة 3:
يسكنني الحرف حارقا/ ولد جنب الأعمدة المتروكة في المتاهات
ولغة الشاعر تسترجع صورا قديمة بقيت أعمدتها كآثار تسترجع حيوات سابقة. إنها المتاهات في أيام رملية تحجب الرؤى وتكتم صوت الحرية على الجدران المقفلة.
إذا المدينة حامت بظلي / وضاق البناء وهد الجدار 

Poem and painting
توليفة وعلاقات يولد منها الفنان معانيَ ومقاصدَ مختلفة

ولكن تبقى ظلالها تتابع عين الشاعر لتذكره بصور غائبة، فقدرة اللغة هي استرجاع جماليات المدينة الأولى وإن تغيرت ملامحها وهندستها فهي أصل كل حنين، للون وتصاميم البناء وشخصياتها يتعلق بها كما تتعلق الأم بأبنائها.
وفي إعادة ترميمه لمدينته فهو يعانق حجارتها وصخورها التي تمثل له موضوعا عاطفيا قديما، فهو يعانقها ويسترجع ما بثته فيه من مشاعر الطمأنينة:
عاد سلال يرسم الذكريات على جدران لا تتكلم ويفتح الأبواب علّه يعثر على ابتسامة براقة. فهو لا يرسم المكان بقدر ما يرسم ذاكرة المكان بل يرسم سحره الباقي يوزع الضوء على اللغة ويرسم مشهديتها:
يا قبابا سحرك الباقي لنا يمسح الأحزان
وهو يسترجع الحلم الذي يتشبع به كل فنان:
البيوت اندس فيها الحلم مذن
فالحلم متين وشامخ شموخ بيوت الأجداد:
بيت أجدادي وبيتي شامخ فوق هامات سيبقى مستمر
التوزيع البصري لقصيدة عمودية
أوصل مهدي غلاب قصيدته عبر جماليات اتصالية حديثة تقوم على التشكيل البصري. حيث تصبح اللغة الشعرية المجسدة كائنات تصويرية عبر القطع والتشذير. وعلى الرغم من أن مهدي غلاب يكتب القصائد العمودية فهو يوزع بعضها على غير الصدر والعجز، وإنما يلعب على شكل طباعي مختلف، ويحول من شكل القصيد إلى نص له دلالات ومعان جديدة يحيل إليها، وبين بحور خليلية تسترجع الحنين للوقوف علی اﻷطلال واسترجاع أنقاض مدن في الذاكرة، ينحرف إلى إيقاع خاص مجزء، وفي ذلك تجديد وخروج من نمط صوتي مكرر وقديم يقوم على التقسيم الثنائي للبيت بل للبيت أكثر من صورة ولمفردات البيت توزيع يتناغم مع حالات التشظي والغربة.
على سبيل الخاتمة
"منازل الوجدان" هي أحاسيس انبثقت عن مدينة الذاكرة وانبثقت من بين فجواتها أحلام تراود المبدع وتحمل معها خيال المتلقي هي مدينة بألوان الحجر والصخر والتراب والرمل والخشب القديم. معالمها وتصاميمها واضحة وجلية وإن انمحت زواياها. هي الصور المرتسمة حنينا فاسترجعها الشاعر عن طريق  التعبير عن أحلامه داخل جدرانها، ورسمها فنان تشكيلي شغف بصمود أبنية الماضي وألوانه. يعبر عن وجدانه وتعلقه ويرسم منازله لتعكس إبداعاته بيئته ومجتمعه عبر النقاط والخطوط واﻷشكال الهندسية وطمسها بالألوان. 
وفي  الحالتين فهو يستدعى ذاكرته البصرية لينقل لنا أحاسيسه. من خلال تشبعه بثقافة ترجمة أحاسيسه بلغات ووسائط فنية متعددة ليس أقلها اعتماد التفعيلة التي تحيل إلى الأطلال والتغني بالماضي فهذه الوسائط الفنية لا تعكس اللغة فوتوغرافيا بقدر ما تعبر عن الشحنة الذاتية الكامنة. فهو لا يصور مدينة من زمن الماضي بقدر ما يصور وجدانه. فهو لا يرسمها كما هي بدقة بألوانها وأشكالها بل بألوانه التي تحسسها ومن خلال إضافة انعكاسات لأشكال. وهي بذلك تحملنا إلى عوالم المبدع لا عوالم هذه المدن بل بعدها الرمزي والفني بالنسبة إليه وقدرتها على شحنه بالخيال وحالاته الوجودية. وإن اعتمد على أقيسة وأشكال متوازنة وتوزيع الألوان ليبلور دلالاتها الجديدة، فمنازل الوجدان هي تدرج الذات المبدعة في الارتقاء بوعيها وتصوير أحلامها وحالاتها ومناخاتها، وكما قال سيمونيدس: "الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت".
فاللغة تحمل معها إيقاعها ورنين الماضي، واللوحة تحمل معها أشكالها والحنين للون الأرض والحجر والتراب والخشب والرمل وكل المواد اﻷولية التي تشكل منازل الوجود.