من "لمّ الشمل الجزائري" إلى "لمّ الشمل العربي"

على امتداد عمر أزمات الجزائر الطاحنة وحتى القاتلة منها، شكلت "قوانين الرحمة" و"الوئام المدني" و"المصالحة الوطنية"، وحكاية "لمّ الشمل"، برامج ومشاريع وأحلام طموحة هي الأقدر في نظر صنّاع القرار على تهدئة الخواطر وجبر الصدع والخلافات والمشاحنات والصراعات والتطاحن.

كانت غامضة.. وتردد أن أعتى ضباط الإستخبارات بدأوا منذ ما قبل الإعلان عن "حكاية لمّ الشمل"، في مدّ خيوط الإتصال مع أفراد انتموا في فترة ما إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ وآخرين انتظموا في الخارج ضمن كيانات معارضة راديكالية. قيل أن المصالح الأمنية على إختلاف تخصصاتها جهزت قوائم ضمت أسماء باركت الإرهاب وتغذت به وحضَرت به طيلة سنوات، والبعض الآخر ألصق بهم شعب السوشيال ميديا وجماهيره الإفتراضية صفة نشطاء سياسيين، وآخرين غاضبين من النظام غضب تقليدي همشت مطالبهم الصعبة التحقق والإمكان وظلوا يرفعونها هنا وهناك في محافل أقلقت النظام، خاصة وأن هذا الأخير وهو يرتدي حطة و"لوك" جديد رافع لطيّ الخلافات من أجل جزائر أخرى تقطع مع عهود بائدة. لا أحد أماط اللثام عن الأسماء وهل لاقت قبولا وإجماعا لدى الطبقة الحاكمة وبخاصة داخل المؤسسة العسكرية. لم يفصح عن مضمونها ولم تعرف سوى في برقية لوكالة الأنباء الجزائرية لتختطف ويهلل لها كالعادة من لدن نائب في البرلمان ورئيس مجلس الأمة، ثم صدرت في بيان حكومي أذاعته وكتبت عنه وسائل الإعلام.. ليعقبه تصريح للرئيس تبون في لقاء تلفزيوني كاشفا عن بعض نقاطها، ثم تمّ تدويرها بين محللي وخبراء "الشو" التلفزيوني، لتتوسع ويتم إبرازها في إفتتاحية إحدى أعداد مجلة الجيش، ثم لتتلقفها الألسن والدوائر والأحزاب بقوة هذه المرة وكأن إشارة الرضى التي نطق بها الجيش أزال الغموض الذي لفّ بداياتها، ثم لتصبح عنوانا بارزا لكل خطوة يخطوها الرئيس أنتهت إلى تطبيقها في أول سانحة حين أجتمعت الفصائل الفلسطينية في الجزائر على مائدتها، وها هي تطير كالأحلام في رأس تبون وأركان النظام وهوامشه، تنتظر التحقق في القمة العربية المقبلة.

كل هذه الرحلة المتشعبة لحكاية "لمّ الشمل" منذ خروجها من زوايا القصر وغرفه الكثيرة، ارتسمت ببطء وتؤدة كمشروع هائل ألقي به في أتون المجتمع الجزائري المنهك جراء الكثير من المشاكل والظروف المؤلمة التي كان يعيشها وما زال على كل حال.. الإستيقاظ على خديعة كبرى عاشها طيلة سنوات نهبت فيها ثراوته وسرقت.. حراك تلولب وتاه لم ينتج أو يخرج بشيء ذي بال.. رئيس منتخب بخمول ويجتهد ليجسد ما وعد به.. طبقة سياسية مفلسة بقيت على حالها في إنتظار الفرج.. ومياه راكدة في العقول تحتاج إلى عصا سحرية تخوضها.. وجيش يرافق ويتقدم ويُعين (من العون) النظام كي يخرج من متاهاته وهزاته التي تكاثرت ويحاول أن يجد مستقر له وسط الفوضى والأخطاء.. وهوامش مسكينة تروم السكينة والهدوء والعيش الكريم.. وعصابات مفسدة تبطل التقدم والنمو والإستقرار، وجيران يخاصمون بكل الوسائل والطرق.

على امتداد عمر أزمات الجزائر الطاحنة وحتى القاتلة منها، شكلت "قوانين الرحمة" و"الوئام المدني" و"المصالحة الوطنية"، وحكاية "لمّ الشمل"، برامج ومشاريع وأحلام طموحة هي الأقدر في نظر صنّاع القرار على تهدئة الخواطر وجبر الصدع والخلافات والمشاحنات والصراعات والتطاحن و.. غيرها من المسميات التي عصفت بالبلاد وغرست في عتباته الخوف من الحاضر بلّه المستقبل.

ثمة أفاق واسعة لما أمكن أن تكون عليه هذه الحكاية لو أنها اندفعت أكثر نحو مصارحات حقيقية كشّافة لجوهرها وعمقها ومعناها.. غير أن مفعولها تراجع وخفت لأسباب مجهولة.

ربما كانت أحلامها أكبر ومستحيلة لا تسعها قوانين مجردة جافة مكيفة حسب الظرف وسياق المصالح، فهي تعني الإنسان بالدرجة الأولى الذي يخاصم أخيه الإنسان أو جاره أو الأقربون بالمعروف قبل أن تنقل أثقالها إلى أجنحة النظام الجزائري ومعارضيه سواء أكانوا من ورق أو من فقاعات أو من أعداء وأشباح، تحتاج إلى إيمان قوي وإرادات فولاذية تقفز فوق الخلافات لتشدّ إنتباهات جمهور المجتمع الواسع المتلظي معظمه تحت نيران الغضب الخافت الذي قد ينفلت في أي لحظة، غير مكترث إطلاقا لما تفعله السلطة      أو تقوله لأن عامل الثقة المفترضة بينه وبين ولاة أمره منعدمة تماما وتكاد تكون ممحوة بفعل تراكم الخيبات وفقدان الأمل.

وهذا هو الحال المكرر أيضا والمنطبق على الشعوب العربية، المنقض على رقابهم، حال لا يمكن غضّ الطرف عنه وتفاديه والبحث عن حلوله ضمن مخرجات القمة العربية التي تريدها الجزائر جامعة وملمومة تحت طيف موحد وجناح واحد.

واقعية ما يحدث في العالم العربي المرتهن لقوى عالمية مسيطرة و"مصلحجية"، ستجعل من حكاية "لمّ الشمل" مجرد حلم وردي سيعبر منام حكام وسلاطين وملوك العرب، ففي برهة الحقيقة والمكاشفة سترتسم حكايا أخرى تأتي من لدن هذه القوى العالمية وتعيق أية مبادرة وحسن النية في التغير الأفضل والأمثل.. فهذه القوى هي التي تأتي بالرؤساء والحكام والسلاطين وفي أحسن الأحوال ترضى عنهم وتغض البصر عما يقومون به ولو كان ضد الحقوق والإرادات والحريات.. وهي التي تصنع السلاح والغذاء، وهي التي تفبرك الفوضى وعدم الأمان، وتخمد جذوة الثورات الحقيقية للشعوب.. وهي التي تطعمنا شعارات الديمقراطية وتربي فينا أوهام العيش المشترك من أجل مستقبل مشترك.

ولكن ثمة واقعية أخرى لحكاية "لمّ الشمل" توحي أنها قد تؤتي قطافها وثمارها بعد مخاض عسير أنهك الشعوب العربية، وهي تأتي هذه المرة من الجزائر منبع الثورة والأحرار والحراك، ولعل أبلغ صورة معبرة عن ذلك هي تلك التي وقف فيها الرئيس تبون جنبا لجنب مع الفصائل الفلسطينية في مشهد غاب لسنوات حتى على الفلسطينيين بحد ذاتهم، يمكنه أن يتحول إلى رمزية حافلة ببدايات جديدة كبرى تتصالح فيه وتجتمع الأنظمة والسلط العربية على مائدة واحدة من أجل مصير واحد ومستقبل تطوى فيه صحائف التسلط والقهر والظلم والمشاحنات والدسائس وغيرها من الأمور التي لطخت السمعة والشرف والوجه العربي.

تثق الجزائر في قدرتها على منح العالم العربي قوته المفقودة ليس لأنها تملك جيش كبير وهي تملكه فعلا، ولكن لأن نقاط ضعف الأخرين في الكثير من الأمور هي ما يمكن أن يعطيها السبق في قيادة قاطرة المصالحات العربية والوقوف على أرضيات صلبة للحوار البناء مع القوى العظمى لحلحة العقبات والمشاكل وردم الحفر والهوات المفتعلة بعيدا عن لعبة التصنيفات والبهرجات الإعلامية الصاخبة التي ما فتئت تبث وتعلن ويؤخذ بها على أنها مسلمات وحقائق أبدية ثم في الأخير يكتشف أنها كانت مجرد ضوء يعمي الأبصار ويختفي عند اشتداد المحن.

ليس أدل على تلك الديناميكية التي أصبحت عليها الجزائر في الآونة الأخيرة، سوى كثرة الوفود العالمية التي تأتي تباعا أو تتصل أو تشارك أو تنتظر دورها للقدوم.. أصبحت محج وقِبلة كما في الماضي القريب حيث كانت محج الثوار وأصحاب القضايا العادلة. نعم لربما كان الهدف الكبير هو الغاز والطاقة، وليكن.. فهو قوتنا وسلاحنا وأوراقنا الرابحة المعلنة جهارا على الملأ في معركة العالم والتحولات.

في ظني لا بد أن تخرج حكاية "لمّ الشمل" من منعطفات الخيالات والسفسطائيات والحواجز المزيفة.. لا بد أن تتحول إلى مسيرة كبرى تبدأ من الإنسان البسيط. مسيرة كفاح تلم شتات النفوس والأرواح.. تلم شتات القادة العرب في بوتقة المصالحة والتفاهم، فالخطب العالمي خطير وكبير يقودنا إلى هاوية لا نعرف قطرها ولا حتى حدودها.. لا بد للقمة العربية أن تختصر حيوية الحضور الكبير للقادة العرب لتعزيز ليس الوحدة فقط بل تمتينها بالصدق والصراحة والشفافية لا أن يتواروا خلف الأكاذيب والخطب الرنانة.. لا بد أن يجبروا على الابتسامة البريئة في وجه بعضهم البعض.

راهن الرئيس تبون منذ مجيئه على رأس البلاد على الكثير من الأمور.. أخطأ في بعضها وجانبه الصواب في بعضها الآخر.. صحح بعضها.. تشفع له عفويته وشيء من نية ومسلك وطريقة أورثته إياه لفحات ونفحات الزوايا التي طاف فيما مضى بين جنباته، غرست فيه قيمة "الصلح خير" وهو ما يصوّبُ نحوه عينيه.. نحو قافلة القمة العربية القادمة على خطى كأن الريح تحتها.. فهل ستميل بمن فيها أم ستثبت وستخترق أم ستسقط في الرمال المتحركة.. ذلك ما سنراه قريبا.