من يكسب تركيا يكسب الشرق الأوسط

زمن الدلال التركي على الغرب ولى بدون رجعة.

لا أحد يتوقع صدور مواقف ثابتة ومحددة من تركيا، لأن تركيا لا تقف على أرض ثابتة، صلبة ومستقرة، فهي تضع رجلاً في أوروبا وأخرى في آسيا، هكذا كان حكم الجغرافيا، وهكذا أصبح حكم السياسة. ولحين إستقرار وثبات موقع تركيا جغرافيا، فإن أخذ مواقف تركيا على محمل الجد سيكون مؤجلاً.

الكثيرون يضعون اللوم على أردوغان ويتناسون حال تركيا التي هي عليه.

تركيا تحتاج موقفاً صارماً وحازماً يحدد بدقة ووضوح أين سيكون مستقبلها، وهذا الموقف أكبر من حجم رجل لوحده مهما إتسع ظله.

القول بأن العالم قرية صغيرة صحيح من جانب، لكنه غير صحيح من جوانب عدة. وما سُمي بالعولمة إبتكار ذكي للدول التي اعتادت النهب وتفننت به، والذين انخدعوا بهاتين الإحبولتين كثار مع الأسف. ومن جملة هذه الدول تركيا التي تصورت في وقت ما أن أوروبا ستأخذها بالإحضان، بالأخص في فترة الحرب الباردة. وبناء على حسابات مخطوءة، تنطلق من حاجة أوروبا وأميركا لها، وهي حاجة ليست ثابتة ولا دائمة، تصورت تركيا في مرحلة من المراحل أن أوروبا وأميركا لن تستغنيان عنها، وبعد أن عززت أمنيا وعسكريا وإقتصاديا علاقاتها مع إسرائيل، فقد تصورت أنها ضمنت رعاية أوروبا وأميركا لها وتفضيلها على غيرها في التعامل العسكري والتجاري، وأن أوروبا ستعاملها كبقية الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، في الأقل الأقل شأناً، ولفترة تصورت أنها ستتفوق على اليونان من حيث الأهمية بالنسبة لأوروبا، وما يعزز هذا التصور وجود الأعداد المليونية النشطة إقتصاديا وإجتماعياً من الأتراك الموجودين في أوروبا، وإنتشار البضاعة الغذائية التركية في أسواق دول الإتحاد الأوروبي، وإستثمار شركات أوروبية عملاقة في قطاع السياحة والنقل في تركيا، والأهم عضويتها في حلف النيتو، ووجود أكبر قاعدة أميركية على أراضيها، وعلاقاتها اتلمتطورة مع إسرائيل.

ولا يمكن إغفال أن تركيا إستفادت كثيراً من هذا التوجه، الذي أدى إلى تحسين وضعها الاقتصادي، ويسجل لأردوغان هذه القفزة السريعة في المجال الاقتصادي بعد التدهور المريع الذي عانى منه الاقتصاد التركي. ولكن لا بد من ملاحظة أنه حتى في الجانب السياحي الذي أصبح الآن بالنسبة لتركيا أحد أركان إقتصادها، فإن السياحة الآتية من روسيا أكثر من تلك الآتية من الدول الأوروبية، أو قد تساويها في أسوأ الأحوال. وينبغي الإشارة أن الاقتصاد السياحي التركي كان على شفير الهاوية بعد إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، وإيقاف السياحة بين البلدين.

يبدو أن روسيا تنسلل بهدوء في مفاصل تركيا، وأميركا وأوروبا تنسحبان بلا صخب. فمقابل قاعدة أنجيرلك المهددة بالنقل، هناك أس 400 وأنواع أخرى من السلاح فائق الأهمية والفاعلية في طريقه إلى تركيا، وبدل بعض المكاسب من تصدير البضاعة الغذائية إلى أوروبا، هناك التبادل التجاري الذي قفز إلى عشرات المليارات بين روسيا وتركيا من جهة، وبين إيران وتركيا من جهة أخرى، وهناك السيل الجنوبي، ووعود بأن يمر فرع من طريق الحرير عبر تركيا، مما يسمح بربط تركيا بعمقها الحقيقي آسيا، حيث تكمن مصالحها الحقيقية.

ليس من المتوقع، حتى في المدى البعيد، أن تترك تركيا مصالحها الحيوية مع أوروبا، لكن من المتوقع أن تواجه هذه المصالح بعض الصعوبات، ومن المؤكد أن زمن الدلال التركي ولى بدون رجعة.

ثمة مانع أساسي يمنع أوروبا من إنضمام تركيا فعليا إلى الفضاء الأوروبي، إذ يتصور البعض أن دخول ما يناهز المائة مليون مسلم إلى نسيج أوروبا سيغير كلياً من التركيبة السكانية، ويغير على نحو دراماتيكي نمط وأسلوب الحياة الأوروبية، وسيجعل الثقافة مزدوجة (مسيحية – إسلامية)، فكيف إذا كانت تركيا محكومة من قبل حزب إسلامي يرتبط بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

تركيا اليوم تسير على حبل رفيع لا بد له من أن يميل في نهاية المطاف لجهة ما. الحذلقة والتذاكي، كالكذب حبلهما قصير. بين إسرائيل نيتنياهو المندفع بجنون لتحقيق المصالح الصهيونية، وإيران المنادية بالدفاع عن فلسطين والقدس، سيختار الإسلامي أردوغان موقفه، وبالتالي ستختار تركيا.

وبين الكيان الكردي الذي تعمل عليه أميركا، والدفاع عن وحدة أراضي سوريا الذي تدعو إليه إيران سيتخذ أردوغان موقفه، ليس كإسلامي فقط وإنما كتركي قومي، تهمة وحدة أراضي تركيا.

وسيكون موقف تركيا موقفاً حاسماً بالنسبة للصراع في منطقة الشرق الأوسط، بين أن تكون المنطقة لأبناء المنطقة، وبين أن تكون منطقة هيمنة شبه إستعمارية لأوروبا وأميركا.

لغة المصالح هي ما يحدد في النهاية إلى أين ستتجه تركيا، وإيران والصين وروسيا، يفهمون لغة المصالح، تماماً مثلما تفهمها أوروبا ويفهمها الأميركان، والسباق الآن بأي شيء سيغري الطرفان أردوغان وتركيا؟

وسيكون موقف أردوغان الذي عده الكثيرون متقلباً موقفاً حاسما، سيحدد ملامح مرحلتين؛ مرحلة عانت منها المنطقة الكثير ومرحلة واعدة، ستكون منطلقاً لإعادة الحقوق، وعلى رأسها حق الشعب الفلسطيني الذي يتسابق البعض الآن بالتخلي عنه.