مهدي الحسين لا يهرب من الواقع ولا يتوسل الرموز والألغاز

الفنان الملقب ' ويندا' ما زال يتساءل من يحرق من، هل هو الذي يحرق على الخشب، أم أن الخشب يحرق عليه.

إذا كان الحرق على الخشب مهارة وإتقان، فهو فن أيضاً، وهو إحدى تقنيات الرسم الكثيرة، له ما يميزه بجمعه بين الرسم والخط والزخرفة، وإن كان يميل بعضهم إلى اعتباره حرفة، وهذه التقنية تحتاج إلى الدقة الزائدة، فمن لا يملك هذه الدقة لا يمكن أن يبدع فيه، فأي تعثر هنا له حساباته، يرفض الخطأ، فلا تراجع هنا، فالحرص على تجنب الخطأ من أولى الأشياء التي يجب أن يتحلى بها كل من يغامر في السير في طريقه، ولا نبالغ إذا قلنا إن التلكع هنا مرفوض، وقد يجعلك ترمي إنتاجك بعيداً إذا وقعت فيه، وكذلك تحتاج هذه التقنية إلى صبر أيوب، وإذا لم تتحلى بذلك لا يمكن أن تنجح فيها، فالأمر هنا يتطلب بالضرورة وقتاً طويلاً، فصبرك وشغفك بما تنجزه إلى جانب دقتك العالية حين العمل هي التي ستسهل بولادة مولودك سالماً ومعافى، ولهذا قليلون جداً من يخوضون هذا المضمار، مقارنة بالتقنيات الأخرى التي يمضي إليها الفنانون، ومهدي الحسين أو ويندا (Wendy) كما يحب الحسين أن يعرف به كاسم فني من الأسماء القليلة التي جعلت من هذا الجانب من الرسم مضماره الذي سيخوض فيه حروبه الحياتية والفنية.

 وتشاء الصدف أن أكون حاضراً في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق حين قدم الحسين معرضه الخامس فيها تحت عنوان "باقة من النجوم الذهبية"، وذلك على مدار يومين وتحديداً في 22-23 من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، في قاعة كلكامش بالمركز الاجتماعي بعين كاوا، وبحضور جماهيري واعلامي مميز، ومن خلال العنوان سندرك بأن تلك الباقة من النجوم الذهبية يقصد بها الحسين تلك الأسماء من المبدعين الكورد الذين أثبتوا وجودهم لا في وسطهم الكردي فحسب، بل في الأوساط الأخرى فهم سفرائهم في هذه الأرض، في هذه الحياة ،لهم فعلهم المؤثر في شؤون مواطنيهم، ولهم وزنهم عند قومهم، منهم الشعراء، والأدباء، والفنانين التشكيليين، والمغنيين والموسيقيين، والسينمائيين، كان لهم حضورهم الكبير في الشارع الكردي، كان لهم أثرهم في رسم خرائط معرفة وثقافة هذا الشارع، فكل منهم بات نجماً ذهبياً يزين سموات البلاد ويضيء لياليها، وإذا عرفنا أن مجمل معرض الحسين كان يضم ستون عملاً، كان نصيب المبدعون منها خمسة وأربعين عملاً سيطيل بنا البحث إذا دونا أسماءهم جميعاً، لكن لا بد أن نذكر أسماء بعضها : محمد شيخو، رفعت داري، تحسين طه، جميل هورو، آرام ديكران، محمود عزيز، شفان برور، بافي صلاح، سعيد كابوري، سعيد يوسف، جكرخوين، تيريز، يوسف برازي، ملاي جزيري، أحمد خاني، صالح حيدو، شيركو بيكس، حامد بدرخان، سليم بركات، عمر حمدي ( مالفا )، يلماز غوني ... إلخ، فكل اسم من هؤلاء الأسماء هو حكاية طويلة لشعب عانى وما يزال من تيه لا يفهمه إلا من عاشه وذاق منه، هو حكاية تحررت إلى حد بعيد من طلاسمها حتى عانقت آفاقاً كثيرة، وكل فصل من تلك الحكاية، بتفاصيلها وقيمها مغرية لنا أن نقف عندها بعمق، وبرهانات فنية تؤسس جمالية الإبهار عندهم، فهيمنة مقام كل نجم من نجوم تلك الباقة لها مقوماتها التي لا تخفى علينا، أما الأعمال الخمسة عشر الأخرى فكان منها لقادة سياسيين لهم ظلالهم على التاريخ والواقع، لهم فعلهم الذي يكاد ينطق بصداها في كل الأمكنة في الخارطة الكردستانية، ولكن الأعمال التي كانت تلفت النظر أكثر، والتي كانت تعتبر سيدة المعرض فهي تلك اللوحة التي كانت تتصدر الصالة، والتي تمثل بالأساس عما جرى ويجري في البلاد . وأشارت إلى الموضوع الأهم، موضوع المفقودين لدى الجهات جميعها، والتي بلغت مئة وخمسين ألفاً لم يعرف مصيرهم إلى الآن، وذلك برسم بورتريه لشخصية معروفة داخل الأصفار الأربعة المرسومة إلى جانب الرقم 15، أخذها كعينة أو أنموذج من كل حالة لدى جهة معينة، وهؤلاء الأربعة هم : حسين عيسو، وباولو دالوليو، ورزان زيتونة، وبهزاد دورسن، أما اللوحة الثانية فكانت منفذة بصورة كولاجية لمجموعة مفاتيح تعود وتشير إلى هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، وبالتحديد من رأس العين، المدينة التي ينتمي الحسين إليها، ولم يحملوا معهم غير ذلك المفتاح الذي قد يجدد الآمال لديهم بالعودة إلى ديارهم وبيوتهم وموطن ذاكرتهم وعشقهم، ولا يجب أن ننسى مفتاح الحسين نفسه والذي وضعه داخل شكل أسطواني شفاف، معلقاً فيه، قائلاً عنها : هذا ما تبقى لي، ترافقه في مجمل معارضه التي قدمها، كرمز إلهامي أولاً، وكتلويح بأن " أجراس العودة لا بد أن تقرع " فلا يجب النسيان، رغم يقيني بأن مدينته ووجعها قد تكون زمرته الدموية من كثرة ما يضج كل منهما بالآخر، فهي تضج به، وهو يضج بها، تجري في عروقه، فلا تهدأ ولا تستكين.

مهدي الحسين لا يهرب من الواقع، ولا يتوسل الرموز والألغاز، وليس شغوفاً بالإغراب لغواية متلقيه، أو الترويج لرسوماته بقصد البيع أو الإفلات من الرقابات الكثيرة التي تصادف كل من يعمل ويتحرك في هذا المجال، فهو على استعداد لتلقي كل التبعات، ويلتقط كل الأخبار والآهات المرسومة على الوجوه بلا غربال، يطوف بين أصقاعها المتباعدة، والمتقاربة بآن واحد، يعرف تماماً بأن ما يرويه ليس مختلفاً، ما هي إلا تراكمات معلقة في رأسه منها ما يعرفه، ومنها ما لا يعرفه، منها ما أخبره به الآخرون، ومنها ما يضج في دواخله، ما هي إلا تراكمات تحمل أسئلة كثيرة لا حدود لطرحها، أسئلة لا سبيل للوصول إلى معرفة أجوبتها إلا حين تعمم الغيوم سموات البلاد، وتبهت شموسها، فحكاية الحسين هي ليست حكايته لوحده، بل هي حكاية سرب كبير، حكاية تقرأ ذاتها، وتفسر نفسها، ولا عجب هنا إن وصلت الحال به إلى هذا الإنتقال والتداخل بين وجوه سقت بدمائمها قمم الجبال حتى باتت أكثر شموخاً وأكثر سطوعاً، وبين من هز قلمه أو ريشته أو صوته وآلته الموسيقية، أو كاميرته حتى اهتزت الأماكن بكل محسوسياتها، فلم تخنه الذاكرة حول ما حدث، ولا حول من مر بها وترك أثر، فالواقع بأحداثه الغريبة التي تقارب الخيال، يلتجئ إليها الحسين في سردها، عبر عرضه على متلقيه قراءته في مرويات الوجوه التي اقتنصها من هذا الواقع المر والمرعب، عبر عرضه لتقاسيم تلك الوجوه الشاهدة وهي تدلو بشهادتها لتوثق بشكل من الأشكال أحداث ذلك الواقع وتحدد رؤية السارد لها على نحو خاص، وللعالم على نحو عام، رغم يقيننا بأن الكثير منها تفسر مروياتها من داخل النص ذاته، والحقيقة أن ما ينتجه الحسين ليس مجرد وجوه لمشاهير كردية لها وزنها فحسب، بل هو اقتراف، وانطلاق، وتعاقد، اقتراف بأنه ناقل أمين وبريء، أمين لأحوال الآخرين، وبريء من المبالغة والتحريف والتهويل، وانطلاق نحو شخصياته ليقف أمامها، مردداً صدى ملامحها، يفسح المجال لها كي تتلفظ صوتها مفردأً حيناً، وجمعاً حيناً آخر، فعندما نقرأ وجوهه، أقصد وجوه شخصياته ستحيلنا بنفسها على ذاتها، بما تحملها من نحيب وحزن، أو بما تديرها من لجام أوصالها، وتعاقد ممكن بينه وبين متلقيه أساسه البساطة والوضوح بعيداً عن كل ما هو مناورة وتربص وخداع، فهو يسارع كي يتخذ من الوجوه وحكاياها مسنداً، يلتقي بها جميعاً، ويروي عنها للآخرين، لا لبس لديه ولا التباس، لا صعوبة لديه في تحديد احتمالات القراءة، ولكنه يرمي بها إلى وضع مريح ومطمئن، حتى تتحول تلك القراءة إلى ضرب من فك شفرة لا عسر في فكها، دون أن يضع متلقيه في أتون الحيرة والعجز، فلا ألغاز هنا ولا رموز، فكل الدروب التي يسلكها تحول أي التباس إلى بداهة قائمة، ويمكن في هذا السياق أن نقف عند منتجه بأنها نصوص مفتوحة، لا مداورة فيها ولا غموض، جميعها قائمة على مخاطبة قارئ ضمني يتحول بدوره إلى سارد يسرد مروياتها، بنهاياتها وإضاءاتها، وبكل ما يساعدها على ترتيب كل العلاقات بين وجوه شخصياته، لا ليضع حداً لاسترسالها، بل لفتح ينابيعها تتدفق في كل الأحوال والمصائر.

من يحرق من، هل الحسين الذي يحرق على الخشب حقاً يحرقها، هل هو قادر على تسجيل كل شيء، هل هو قادر على تفسير كل ما لحق العالم من تخلخل واهتزاز بهذا الحرق، أم أن الحقيقة غير ذلك تماماً، بل قد تكون معكوسة، فكل حواراتنا مع وجوهه المحروقة تشي به، تشي بشظاياه المحروقة، ففيه حيز من الواقع والحقيقة تحترق معه، مهما حاول من تحويلها إلى رسومات لوجوه محروقة، فهو يتعامل مع تلك الوجوه لتلك الشخصيات من باب الحوار معها، وترجمة التقاطعات بينه وبينها ليتم حرقها، إن كانت على الخشب، أم كانت في دواخله، فمهما انخرط فيها، فهو لا يجد صعوبة في اكتشاف بعضهأ على الأقل، وهذا يذكرنا بتفاصيلهم، لا بأسمائهم، وألقابهم، يذكرنا بهيئاتهم وأفعالهم، وبتقاسيمهم بكل مقاطعها، وهذا يجعل الحسين يمارس عملية الحرق بكل وقائعها، فهو يتعامل مع الشخصيات المختارة للحرق بنزعة من النرجسية الواضحة، فثمة هوس كبير للحرق لديه، وهو بالعموم شكل من أشكال إخراج حرائقه هو، وهذا يجعله حاضراً في نصه على نحو دائم، فها هو باسترخاء يتآلف مع شخصياته بطريقة غير محايدة، حتى أنه لا يقوض علاقاته التقليدية بها، فلا فرار لديه من قيود واقعية وسط بقعة من الحريق، كما لديه استمتاع كبير بهذا الحرق وكأنه يعالج ثآليل وبثور ودمّل قبل أن تتحول إلى أمور خبيثة، أو كأنه يقف أمام جروح مفتوحة بعد أن تم تنظيفها من كل ما تجمع فيها من قيح ودم فاسد، فيسرع ليذر الرمل الساخن عليها، هنا لا يخرج عن المألوف فهو ما زال يتساءل من يحرق من، هل هو الذي يحرق على الخشب، أم أن الخشب يحرق عليه.

زوم صغير:

مهدي داؤود الحسين- وندا يقيم في أربيل.

10-11-1971 / رأس العين - سري كانيه- الحسكة.

قدم العديد من المعارض الفردية، وله الكثير من المشاركات في المعارض الجماعية نذكر منها :

2006  معرض فردي ي المركز الثقافي الفرنسي بدمشق .

2009 معرض فردي في المركز الثقافي بالحسكة. 

2010  معرض فردي بركن الدين بدمشق بالتعاون مع المفوضية السامية للاجئين .

2019  معرض فردي في المركز الثقافي برأس العين - سري كانيه. 

2024  معرض فردي بقاعة كلكامش في المركز الاجتماعي في عين كاوا بأربيل .

2003  معرض مشترك في المركز الثقافي برأس العين - سري كانيه. 

2008  معرض مشترك في المركز الثقافي الروسي بدمشق .

2013  معرض مشترك في فامي مول بأربيل في كردستان العراق .

2021  معرض مشترك في مكتب حزب اليكيتي الكردستاني بأربيل 

2022  معرض مشترك في مدرسة فان بأربيل - مام زاوه .

2022  معرض مشترك في صالة ميديا بأربيل .

2022  معرض مشترك في حديقة شمندر بأربيل .