نادية ابنة الرسَّام

محمود سعيد يؤرخ لابنته نادية ولسنها من خلال العمل الفني.

لم يرسم محمود سعيد ابنته نادية مرة واحدة فحسب، ولكنه رسمها أربع مرات في مراحل متعددة من عمرها. وكأنه يؤرخ لها ولسنها من خلال العمل الفني.

يقول الشاعر عبدالرحمن صدقي: "إن لوحة 'نادية' كانت الأقرب إلى قلب الفنان، كما إلى قلوب كل ناظريها، وفيها تظهر نادية وهي طفلة على خلفية زرقاء (1933). تبدو كالدمية بملابسها الحريرية، تحدق خارج اللوحة ببراءة نظرة ويقظة طفولية في عينيها. توجد لعبة خشبية سوداء بجانب قدميها، وعلى الجانب الآخر من رأسها قفص معلق يحتوي على كناري أصفر جميل. سعى كل شيء في اللوحة إلى تمثيل الطفولة بقيمتها الجمالية المحببة".

ومع كل هذه القيم الجمالية الطفولية المحببة، لم يتجاهل الفنان الوحشية والجشع الذي تخلفه الحروب وعواقبها المأساوية المتكررة، فيخلد الكراهية والشر في تركيبة واحدة من خلال لوحة يصور فيها هروب العائلة من ويلات الحرب، لكنه أحيانًا يحوَّل هذا العالم القاسي من الجشع والنضال إلى عالم أحلام منفصل عن الواقع، يرسم فيه ابنته الحبيبة نادية.

تؤكد الناقدة الفنية راوية الشافعي أن محمود سعيد كان يرسم ابنته نادية بحساسية ودفء شديدين. وفي اللوحة التي رسمها عام 1942 طغت براءة طفولتها على كل صور نادية، حيث ترجمت كيف كان يراها كأب. في تلك اللوحة "نادية في النافذة" صوَّر سعيد عالمًا حالمًا متفائلًا يوضح تحوِّل ابنته من براءة الطفولة إلى حيوية الشباب حيث تنظر نادية من النافذة، التي يوجد على حافتها نبات في إناء، في إشارة إلى السنوات المفعمة بالحيوية والشباب التي ستأتي في حياة نادية.

شَعر نادية مضفر وترتدي ما يبدو أنه زي فلكلوري من أوروبا الشرقية يغلب عليه اللون الأزرق اللامع. وقد سجل الفنان تفاؤله بمستقبل نادية وحنانه الأبوي الشديد في هذه التركيبة الجميلة الممزوجة بالأناقة والتميز، وهي القيم التي كانت حاضرة بشكل خاص في لوحاته لنادية، ابنته الوحيدة.

وترى الشافعي أن محمود سعيد أدرج شكل الطائر، بذيل مزخرف على شكل مروحة، في لوحة "نادية في الرداء الأبيض" (1946) حيث يرمز هذا الطائر إلى  البراءة. ويعلن الفنان عن سعادته لأن ابنته تدخل في نفس الشيء العالم الذي كانت تنظر إليه من قبل من النافذة، في لوحة عام 1942. شَعرها الأسود متوسط ​​الطول مقسوم بشكل أنيق من المنتصف، بأسلوب يذكرنا بأفلام الأبيض والأسود المشهورة بأناقتها الراقية؛ ومع ذلك، فإن النجم الحقيقي للفنان هو ابنته، وهي الآن امرأة شابة مفعمة بالحيوية ومكتملة النمو تشع بالتفاؤل والسعادة البريئة، بابتسامتها البيضاء اللؤلؤية الشبيهة بالرسوم المتحركة وشفتيها الوردية الحمراء.

وتوضح الشافعي أن سعيد تعامل مع الفستان الأبيض الأنيق مع توهج علوي داكن حول الكتفين، تطور إلى لون أزرق مضيء يخفي كل التفاصيل الأنثوية، وهو ما يتناسب مع صورة الأب المحافظ للمرأة الشابة التي تبدو كأميرة تتجول في حديقتها، ممسكة بجوانب فستانها الطويل الأنيق ذي الأشرطة؛ في بعض النواحي، تبدو وكأنها تطفو مثل الملاك الذي يسعى جاهدًا للحفاظ على ثوبه الأبيض النقي بعيدا عن أوساخ الشر. تبرز أيضًا فكرة الخير مقابل الشر في التناوب بين البلاط الأبيض والأسود الذي يُعرض بشكل مشابه على شكل رقعة شطرنج.

في عام 1936 كانت نادية في الثامنة من عمرها، وفي حوار أجراه جان موسكاتيللي مع محمود سعيد (ونشر في 31 يناير/كانون الثاني 1936 بجريدة الأسبوع المصري) قال الفنان: "أنا مفتون بموسيقى بيتهوفن وباخ وفاجنر وسترافينسكي. لكن ما أحبه قبل كل شيء هو ابنتي. اسمها نادية عمرها ثمان سنوات".

ويؤكد الناقد الفني هنري القيم على وجود الشِّعر الغنائي في صور الرسام، ومنها صورة نادية، بسبب التأثير الأقوى لـ"اللون" والتركيز بشكل أكبر على تعبيرات وجه الجليسة. وهي شهادات واضحة على العبقرية.

أما الناقدة الفرنسية فاليري ديدييه هيس فتقول: يبدو أن سعيد استخدم أسلوب الرسوم الكاريكاتورية. مثل أسلوب الصورة الأخيرة التي رسمها لطفلته الوحيد، نادية بالرداء الأبيض (1946). هذه تقريبا صورة بالحجم الطبيعي لنادية البالغة من العمر (آنذاك) ثمانية عشر عامًا. والصورة تحاكي شخصية والت ديزني ذات الشفاه الوردية والشعر الأسود النفاث سنو وايت. الشباب والفرح والبراءة، كما يشير وجود الحمامة على الحافة (على الجدار الواطئ)، تتخلل صورة ابنة الفنان التي تدخل مرحلة البلوغ، والتي تم رسمها من خلال عيون والدها المحب.

وتوضح هيس أن سعيد قام بصنع ضوء غير طبيعي يشع من خلف نادية في اللوحة الأخيرة، ليضع جمال ابنته وبهجتها في دائرة الضوء بكل فخر، وهو ما أبرزه لعبه بزخارف تردد "الابتسامة المشرقة على الوجه بحسب الفنان والناقد رمسيس يونان"، والتي تكررها أقواس متوازية على شكل الكمان والجبل والظل وحاشية الفستان. كما تصور مشهدًا نهريًا خياليًا وخلفية جبلية قام الفنان بتبسيطها لاحقًا عن طريق إزالة جميع المراكب الشراعية والحفاظ على جبلين فقط على كلا الجانبين. وقد تم هذا التعديل أثناء انتقاله من الرسم إلى الرسم، في محاولة للتأكيد على تناسق التكوين ولفت انتباه المشاهد إلى النقطة المحورية الموجودة في فستان نادية.

في رواية "الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد" قال الفنان لمَلك الموت (مَبهج): "سأرسمك جميلا وحنونا مثل أمي ومثل ابنتي نادية". ثم يخاطبه قائلا: "هل ستشهد أيها الموت لوحات الحياة فلعلك تحيا معها، خذ مثلا لوحة "نادية بالرداء الأبيض" التي رسمتها عام 1946، وأنت تعرف أن نادية هي ابنتي الجميلة المشعّة بالحياة والألق، علّك تتعلم كيف تحيا أيها الموت عندما تنظر إلى تلك اللوحة وإلى ذلك الوجه الباسم وإلى ذلك القوام الفاتن في حلته البيضاء، انظر إلى الورود في يدها اليسرى وإلى تطريز الفستان، علّك تتعلم شيئا من الحياة وتفهم معنى الألوان".

وفي حفل عقد قران الملك فاروق على الملكة فريدة (صافي ناز ذو الفقار ابنة شقيقة الفنان محمود سعيد) عام 1938 كانت الملكة ترتدي ثوبًا أبيض مزركشا بالفضة صنع في محل "وورث" في باريس، وطرحة من التُّل الأبيض المزركش بالفضة، والجزء الأسفل من وجهها غطته بحجاب (يسمح للجميع برؤية وجهها ويُرضي في الوقت نفسه ما يطلبه الناس) ووضعت على رأسها التاج الثمين الذي أهداه إليها الملك، وللفستان ذيل طوله خمسة أمتار، حمله أربعة أطفال هم: شريف ذو الفقار (شقيق الملكة) وكريمة شريف باشا صبري، ونادية (ابنة محمود سعيد)، وكريمة حسين باشا سري.

وعندما قرر الفنان أن يعتزل العمل قاضيا ومستشارًا في المحاكم المختلطة، عندما بلغ سن الخمسين عام 1947، تحدث مع زوجه سميحة كثيرا بأن قرار اعتزاله العمل لن يؤثر على أي شيء في مستواهم الاقتصادي، وأنها لن تشعر بأي نقص في متطلباتها ووجاهتها الاجتماعية. كما تحدث مع ابنته نادية التي كانت متضامنة معه وتؤيده بشدة، وكانت دائما تقول له إنه لو تفرغ للرسم لأصبح أشهر رسام في العالم. هكذا تراه نادية دائما، فكل فتاة بأبيها معجبة.

وفي رواية "اللون العاشق" أوضح محمود سعيد – في نبرة حزن – أن ابنته نادية لم تلتقط موهبة الرسم منه. في حين أنه علَّم الملكة فريدة كيف ترسم منذ أن كانت طفلة.

وأثناء زيارته لمتحف لندن شاهد الفنان لوحة منسوخة من أعمال الفنان وليام هوجارث وهي "أطفال أسرة جراهام" منحته الأمل والتفاؤل والإشراق، وجددتْ طاقته وأعادت توازنه النفسي. ذكرته الطفلة المحتفى بها بابنته نادية، وابنة شقيقته وتلميذته صافي ناز ذوالفقار، أما القط الموجود على يمين اللوحة فذكره بقطته الحبيبة بوسي.

وعندما التقى سلفادور دالي في بنسيون آري في لندن سأله الفنان الإسباني: هل أنت متزوج سعيد؟ فأجاب الفنان المصري: نعم .. متزوج وأحب زوجتي سميحة، ولي ابنة اسمها نادية أحبها كثيرا.