نبيه بلان وتراكم اللحظات الهاربة

رحلته الفنان ابن السويداء تمتد لنصف قرن فيها حاول مراراً إيجاد التوازنات بين العين والريشة، بين الوعي واللاوعي مرصوداً على نحو ما معطيات بحوثه الإنطباعية، وتجليات واقعيته المشحونة بلمساته والتي بها يستعيد لون الشرق.

يغمرني شغف كبير كلما إقتربت من تجربة فنان ينتمي إلى مدينة السويداء المدينة التي لا تشبه إلا طيبة أهلها، المدينة التي زرعت أريجها في داخلي منذ ثمانينات القرن الفائت حين كنّا على مدرجات جامعة دمشق نبحث عن مكان نستطيع أن نتنفس فيه بشهيق وزفير عميقين، ما تعرفت على أحد من السويداء إلا ورسخ إحترامي لها، وعمّق إحساسي بحبها، وكأنها مدينة من نفس واحد، وكأن جميع أبنائها بروح واحدة وإحساس واحد وعاطفة واحدة، تذكرني السويداء دائماً بعامودا المدينة الغافية في قلبي أبداً، توحيان لي بالحياة الحالمة أبداً، فأبناء هاتين المدينتين يرضعون الثقافة والفكر، ويقولون الشعر وهم في حبوهم، ويناقشون في الفلسفة وهم يمشون، وحين يكبرون يكتملون في بساطتهم ووعيهم وإنسانيتهم، أسوق هذا الكلام.

 وأنا مقبل على تجربة أحد أبناء السويداء، أحد فنانيها الذين كان لهم الدور الكبير في ملىء فراغاتها التشكيلية، وفي رسم الطريق إلى حلمها، أسوق هذا وأنا أدق الباب على نبيه بلان (السويداء 1948)، الفنان العاشق للفن وإشاراته، وللإنسان وإنجازاته، الفنان الذي يستوعب قيمة الحافلة التي يجرها منذ نصف قرن، ويستوعب قيمة حمولتها، ويملك من الأرضية بمصداقيتها كلها ما ستسمح له بقطع تلك المسافات غير المحددة معتمداً على حبه أولاً وعلى رؤيته الخاصة ثانياً، مع إعطائه كل الشرعية لنفسه وللمتلقي، لنفسه وما يتحرك في دواخله من أشياء وصور وموضوعات بأقصى حريتها الممكنة، بفعله الباعث على السكينة والإضطراب تبعاً لحالاته المزاجية في إختيار ألوانه التي لها موجاتها الكهربائية في التأثير على فيزيولوجيا الإنسان، وللمتلقي بقراءاته البصرية المختلفة والتي تميل إلى تفسير اللون في ضوء علاقاته بالألوان الأخرى المحيطة به والمتفاعلة معه، وهنا ستظهر له تلك الدلالات الرمزية المختلفة والتي ستسمح له بالغور في المشهد البصري لقطف لآلئها ومرجاناتها، فبلان على يقين بأن كل إنسان /فنان/ متلقي له تصوراته في فك وتركيب هذا المشهد بغض النظر عن الزاوية التي يقف فيها، وعن المستوى التي يطل منها، والتي منها يمارس أفعاله / قراءاته، فالإستجابات هنا ستتزايد إن كان بتناغم أو بتنافر، بشكل تلقائي أو مدروس، وبعيداً عن التصنيفات وتوابيتها، بعيداً عن القوالب الصارمة الضيقة يتجه بلان في أفكاره وإنفعالاته إلى الداخل، يحبذ التأمل لا الإندفاع والغضب، دون أي تهميش للخارج الذي يمثل إستجاباته بعواملها الخاصة وبتفضيل أقصر/أطول لجماليات ألوانه وخطوطه وتكويناته، مع ترك الفرصة لكل الاحتمالات الرمزية اللانهائية والإبداعية لا في الفن فحسب بل في الحياة أيضاً دون أي قهر لتفكيره وخياله، مع حرصه على ترك زمام الأمور لإحساساته لتقوده هي في إثراءاتها نحو البداية أو اللانهاية حيث الطاقة مرتبطة إلى حد كبير باهتماماته واختياراته التي ستوجهه نحو تحقيق مقولات جمالية غير شائعة تحقق له بدورها المتعة كلها والحضور كله.

ومن خلال الاقتراب على نحو أكثر من عوالم نبيه بلان، تلك العوالم الجمالية التي تتمكن من اجتذاب انتباهنا إلى أصواتها ومفرداتها، إلى محاولاتها لإبتكار أشكال توحي بصياغات قابلة للدراسة، ستحتار حتماً على أي إتجاه منها ستميل، فاللحظات الهاربة منه تتراكم وكأنها في مهمة رسمية، والتأثير في طبيعة تفاعلاته يرفع من معدل العلاقة بينه وبين أعماله الفنية، مع امتلاكه لخصوبة لونية تتمثل في تلك اللحظات ذاتها، أقول ستحتار في التعامل معها، فهي تحمل هواجسه الزخمة بالحياة، المسؤولة عن استسلامه لانتمائه الإنساني، فهو يقوم باختيارات جمالية تعتمد على عمليات التذوق المرتبطة على نحو كبير بعمليات الإدراك المحاطة بالمدركات البصرية والتي يمكن فكها وتحليلها إلى مكوناتها الأساسية ثم محاولة إعادة تركيبها في مكون جديد، وكأنه بهذه الحركة يحرك الحياة برمتها ويدفعها نحو الجمال، الجمال الذي يمكنه أن ينقذ العالم حسب تعبير ديستويفسكي في موقف ما من رواية الأبله، ويذهب بلان في وجهة جديدة حين يقوم بما ينبغي عليه في دراسة احتياجاته الخاصة وتفضيلاتها، فالالتقاط الفوري لموضوعاته يخضعه لشبكة تصورية من العلاقات بين وحداتها بما ينبغي أن تكون غير قابلة للتحديد، وإن كانت أعماله مستقرة وهادئة، مشحونة بطاقة تتجه في إتجاه تآزر المكونات الخاصة بنسق معين يكشف نشاطاته التي تتكئ على معايير مألوفة، والخلاصة أن هناك إتفاقاً بين مفاتيح سلمه وبين مراكزها النغمية الثابتة، إن كان في تطوير مكوناته المعرفية والارتقاء بمهاراته، أو في اكتساب الألفة العامة ومحاكاة إيقاعاتها، فرغبته القوية في إحداث تغيرات ارتقائية تمنحه إحساساً عالياً بالحرية المتزايدة، وبالحركة على أنها عمليات استمتاعية تعتمد على إتقانه للغة لا ترتبط باللون والموسيقا والسحر فحسب بل هي الحكاية ذاتها تمكنه من سرد مساراتها النشطة التي كل منها تهمس باحتفالاتها وطقوسها وأحداثها، تمكنه من الصعود باكتشافاته على أساس رؤيته الفنية، وخصائصه الحسية، وإمكاناته التعبيرية، والتآلف بين كل ذلك يعطيه إحساساً بصرياً بالمكان والكتلة والحركة والضوء، كما يعطي لوحته حضوراً خاصا.

ولد بلان من أب كان يعمل في طرق النحاس، فالفن كان يسبقه في الحضور في عائلته، وكان لذلك دوره في إكتمال دورة الحدث عنده، في عام 1970 تم إيفاده إلى الإتحاد السوفياتي لدراسة الفن، ليتخرج منها عام 1977، يعود بعدها إلى دمشق ليقيم معرضه الأول في صالة الشعب، ثم يعين مدرساً في الحسكة وفيها أقام معرضه الثاني، رحلته تمتد لنصف قرن، فيها حاول مراراً إيجاد التوازنات بين العين والريشة، بين الوعي واللاوعي مرصوداً على نحو ما معطيات بحوثه الإنطباعية، وتجليات واقعيته المشحونة بلمساته والتي بها يستعيد لون الشرق مع إحتمالية مزجه بينهما لا على شكل عالم من سراب، بل على شكل إبراز الطاقة التعبيرية فيها وإن بروابط مكانية تحمل رؤيته وهو يتتبع إيقاعية حركاتها المنحازة بالضرورة لبريق إشعاعات لونه الشرقي، ومن المفيد العودة قليلاً إلى مساحاته وآفاقها الرحبة التي أينعت تجربته سنجد أنها تنشطر إلى شطرين، شطر يذهب إلى بورتريه وقدرته الفائقة في خلق ملامح لها تتدفق من خصوصيته هو، وكأنه فيها يخبرنا بأن الكاميرا لا يمكن أن تقطف وجوهنا ووجوه من نحب من أعمالنا، وشطر يذهب إلى الطبيعة وإلى الأحياء القديمة، في هذا الشطر يجد بلان ضالته ضمن تجاورات لونية مبتكرة ومنسجمة، وهناك دائماً تركيبات وحالات مزيج من الألوان تعتمد على المثير الجمالي للطبيعة والتي تحتوي على خطوط وتكوينات وما شابه ذلك، مع إحترام التقاليد والشكليات والطقوس والتراث وهذا يدفعه نحو مجالات بعينها.