نجيب محفوظ وعصر من الحب

محفوظ: الحب عندي هو محاولة الخروج من الاثينية، أي ثنائية الرجل والمرأة، إلى كيان واحد"

يصرح نجب محفوظ أن كثيرا من زملائه الذين تزوجوا على أساس الحب الرومانسي فشلوا. لكنه يعتقد، في الوقت نفسه، أن الزواج يهييء الاستقرار للكاتب والفنان. ويؤكد دائما أنه كمال عبدالجواد في الثلاثية، أو أنه قريب جدا منه.

فشخصية كمال عبدالجواد تتشابه معه إلى حد كبير، حتى في قصة حبه الأول، وإن لم يكن للكاتب حظه في هذا الحب، فقد استطاع كمال الوصول إلى حبيبته والتحدث إليها، أما نجيبنا فقد ظل ذلك حلما.

وعندما أحب كاتبنا وهو في سن صغيرة، وتعاهد مع حبيته على الزواج، وكانت أمها صاحبة الاقتراح عندما رأت الحب يشب بينهما في الصغر، فإن والده تدخل وقال في شيء من الحكمة: "إنه شرف كبير، ولكنهما لم يبلغا الثالثة عشرة من عمرهما. وعندما فكرت أمها في الأمر قالت لها: "إنه من سنك فلا يصلح لك." وأردفت: "إنكما متماثلان في السن فهو غير مناسب".

ولكن هل يستطيع الكاتب العيش بدون الحب والإحساس بالجمال؟

في المرة الثانية كانت حبيبته أكبر منه بسنوات، وكانت التجربة مجردة من العلاقات، نظرا لهذه الفوارق السنية وأيضا الطبقية، وعلى ذلك لم تعرف هذه العلاقة أي شكل من أشكال التواصل. انتهى هذا الحب الأفلاطوني الذي كان بلا مواقع ولا مواقف ولا تاريخ يذكر عدا الإحساس بالحب.

يقول محفوظ، وهو يستعيد ملامح طفولته: "رأيتها في الحنطور لثوان ليس إلا ففقدت إرادتي وألقى الحب بي في طور جديد من أطوار الخلق. بمجرد أن وقعت عيناي على وجه الفتاة عانقتُ سرا من أسرار الحياة المتفجرة، تفتحت بها أبواب السماء، فأغدقتْ عليّ فيضا من بركات الحب. وأفيق على همس أحد الأصدقاء: هي في العشرين من عمرها، وأنت في الخامسة عشرة! ولكن عرفت كيف يغيب الإنسان وهو حاضر، ويصحو وهو نائم، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام، ويصادق الألم، وينفذ إلى جذور النباتات وموجات الأضواء. ولم أرها بعد ذلك إلا في مناسبتين حزينتين: جنازة سعد زغلول (1927)، وساعة أن هبطت أدراج السلاملك في ثوب العرس لتستقل سيارة إلى بيت العريس". ويؤكد أن آثار هذه التجربة ستظهر في الثلاثية بين كمال عبدالجواد، وعايدة شداد.

إن عنصر الحب يتغلغل في الكثير من أعمال نجيب محفوظ، بل إنه يسمي إحدى راوياته "عصر الحب" (1980)، وهي إحدى الروايات القليلة عند الكاتب التي تصير فيها المرأة الشخصية المحورية في الرواية. كما لا ننسى "الحب تحت المطر" التي يقول عنها: إنها تصور التناقض الحاد بين حارة ومدينة غارقة في اليأس. اعترض عليها الدكتور لويس عوض المستشار الثقافي بالأهرام – الذي اعترض على نشر "المرايا" في الأهرام قبل ذلك أيضا، كما اعترض على "الحب تحت المطر" أحمد بهاء الدين رئيس تحرير الأهرام. أخبرني أن الرواية تتناول الجيش والمجندين الذين لا يهتم بهم أحد، وبالتالي فهي تدخل في أمور من شأنها الإضرار بنا جميعا. ثم همس في أذني قائلا: انت عارف انتشار الأهرام وخطورة النشر في الأهرام، (فبلاش من فضلك). واتصل بوزير الشباب، وكان يعرفه، ونصحه بنشرها عنده في مجلة "الشباب" محدودة الانتشار، بعد أن منع نشرها في الأهرام ذات الجماهير الواسعة. ولكنهم في "الشباب" حذفوا الجزء الخاص بالجبهة كاملا. وأصبحت "الحب تحت المطر" المنشورة كأنها طائر كسير الجناح ليس له سوى جناح واحد، فلم نعرف حياة المجند حتى نبرر السخط والغضب.

وكما نجد "الحب" يتغلغل في أعمال نجيب محفوظ، نراه أيضا يتغلغل في شخصيته عندما نقترب منه، وقد قال عن "أحلام فترة النقاهة" إنها تأتي من الأحلام التي يراها في النوم فعلا، رغم قلته. ويوضح أنه من الممكن أن ينام الإنسان ثلاث دقائق يحلم فيها حلما كبيرا جدا. وأنه لا بد من توفر عنصر الحب في الحلم، على العكس من الكابوس.

نجيب محفوظ لا يحب السفر على الإطلاق، والمرتان اللتان سافر فيهما إلى خارج مصر، (إلى يوغوسلافيا واليمن) كانتا بالأمر، أما المرة الثالثة والأخيرة فقد كانت إلى لندن للعلاج. ويقول عن ذلك: أنا لا أحب السفرـ والحب ليس له تفسير.

ويقول عبارة فيها من الإيحاء والغموض أكثر مما فيها من المباشرة والوضوح: "الحب يزداد زخماً على مشارف الموت".

ويؤكد في حواره مع مجلة "الاثنين" (19 يناير/كانون الثاني 1959) أن الحب مبرر الوجود، فالحياة يكون معناها ناقصا بدونه، ويشعر في غيابه أن وجوده بلا معنى له، وهذا سر حلاوة الحب. ويرى أن الحب المكتمل أساسه التوافق وهذا سر البقاء. وأن الحب ملهم الحياة كلها وليس الأدب فقط، فالحب يزكي الإحساس ويرهفه، والأديب يستقبل كل ما يمر به بإحساسه، ثم يرسل للناس ترجمة هذا الاستقبال، والحب ليس وحده ملهم الأديب، إلا إذا كان الحب بمعناه الواسع: "حب الله، حب الوطن، حب الحقيقة".

وتسأله إحدى القارئات (مجلة الاثنين 10 أبريل/يونيو 1960) "متى كان حبك الأول؟ وماذا كان شعورك؟ وكيف انتهى؟"

فيجيب: "كان في العشرين من عمري، حينما كنت طالبا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، أما هي فقد كانت تكبرني بخمس سنوات. كان عمرها خمسة وعشرين ربيعا. والحب من عادته أنه يخلق في النفس مشاعر لطيفة وسامية، فهو تمرين على المثل العليا، ولذلك قال الصوفية بأن الحب الأول هو تمرين على حب الله. وكان لا بد لهذا الحب، حبي الأول، أن ينتهي إلى شيء ما، ولما كان الطريق أمامي لا يزال طويلا شاقا، ومستقبل الوظيفة على كف عفريت، فقد انتهى حبي إلى فراق بمعروف".

وتحاول الكاتبة الصحفية مهجة عثمان (مجلة روزاليوسف ع 1761 - 19 مارس/آذار 1962) أن تنتزع من نجيب محفوظ اعترافات عن "الحب وسنينه"، وماذا فعل الحب بكاتبنا وكم مرة أحب، وكم مرة عشق، وأين كان يلتقي محبوباته، وما حكاية ترام رقم 15 التي كان يلتقي فيها فتاته قبل أن يعترف بحبه لها. وقد عرفتْ مهجة عثمان أن هناك أكثر من قصة حب في حياة كاتبنا الكبير، والحب الأول كان كالعادة في سن الرابعة عشرة، سن الأحلام والرومانسية والحب اليائس.

وبعد محاولات التملص من الإجابة قال نجيب محفوظ: "كان عمري أربعة عشر عاما، وكنت بالثانوي، أما شكلها أو اسمها، فقد نسيته، كل ما أتذكره أنها كانت تقف في الشارع لتشاهدنا ونحن نلعب الكرة، وكانت تصفق لي بحماس. لكنها كانت نظرة رومانتيكية بعيدة عن الواقع، وحينما بدأت مرحلة الشباب، تغيرت النظرة واتسمت بالواقعية، وبدأت أنظر إلى المرأة على أنها كائن واقعي وشريك للحياة تتركز ميزاته في الروح والجسد معا والعقلية أيضا".

وهو يرى أن حب المرأة ليس هو الحب الوحيد الذي يشغل قلب الفنان، فحب الإنسانية وحب المجتمع، كل هذا يجعل الفنان في حالة انفعال دائم، وعندما ينفعل يخرج للناس أعماله، قصصا وشعرا ولوحات.

ولكن هذا التعميم لا يرضي طموح مهجة عثمان، فيضطر نجيب محفوظ إلى أن يستخرج من أعماقه ثالث تجربة له في الحب، ويقول عنها: كانت أجمل وأعمق حب في حياتي، وقد عشت فيها خمس سنوات كاملة، كنت في السابعة عشرة، في أولى جامعة. أما هي فكانت تلميذة في الثانوي، وكانت تركب معي ترام رقم 15 الذي كان يوصلني أنا إلى الجامعة، وهي إلى مدرستها.

ويمضي مع الذكريات قائلا: "زمان كان الشاب أكثر إيجابية من شباب هذه الأيام، كان يفعل كل شيء وحده، والفتاة سلبية جدا وخجولة، بعكس فتيات هذه الأيام اللاتي قد يبدأن بمغازلة الشباب. والمعاكسات زمان كانت تبدأ بالتمهيد لها بالنظرات، ثم الهمس بالكلمات مثلا "عايز أقابلك". وظللت أهمس لها في ترام رقم 15 حوالي شهر كامل، وأخيرا صدقت أنني أحبها وتم اللقاء. وكان يتمنى أن يتزوجها، ولكن قابلتهما ظروف وعقبات لم تمكنهما من الزواج".

وعندما تسأله مهجة عثمان: "ما هو مفهوم الحب عندك؟" يجيب: "الحب عندي هو محاولة الخروج من الاثينية، أي ثنائية الرجل والمرأة، إلى كيان واحد".

وعندما تسأله عائشة أبوالنور (مجلة آخر ساعة 6 أغسطس/آب 1980) "ما رأيك في الحب؟" يجيب: "هو زهرة الأمل في الحياة". وهو يعتقد أن "فصل الشتاء هو فصل الحب والإلهام، وأن الإسكندرية عروسته".