نزار الحطاب وأحلامه الموغلة في المجيء

الفنان السوري صاحب تفاؤل مستقيم، تفاؤل يدعوه إلى التبشير للسلام والجمال مهما كانت ظروف المكان محبطاً ومتفاقماً. 
في من القلاع ما تكفي رفعها إلى سموات تحمي طموحاتها وحياتها ووحدة حالها
الحطاب لا يحتار في حل القضايا الفنية التي قد تبرز أمامه

حلب من أكثر المدن التي تقترب من الحياة، فيها قوة هائلة تجعلها تنبض على الدوام، ترفض الإستكانة والموت مهما كانت فاجعتها كبيرة، وهذه سمة خاصة قليلة المدن التي تملكها، وحلب من تلك المدن القليلة، فثمة أرواح تسكن جسدها ترفض مغادرته، وهي مصدر نبضها وإلهامها، وليست قلعتها المعروفة هي الوحيدة التي تحمل وزرها، ففيها من القلاع ما تكفي رفعها إلى سموات تحمي طموحاتها وحياتها ووحدة حالها، نعم فيها قلاع كثيرة لا تحصى ولا تعد، فيها صباح فخري، عمر بطش، صبري مدلل، فاتح المدرس، لؤي كيالي، .....إلخ، ولهذا ليس غريباً عليها أن تستمر بالإنجاب، بإنجاب من تفتخر بهم، ومن يفتخرون بها، ونفتخر نحن بها وبهم، وبإعلانهم عن أنفسهم وبقوة. 
أقول هذا وأنا في محراب فنان يشكل مع أسماء أخرى وحيد مغاربة، وحيد استانبولي، سعد يكن، عبدالرحمن مهنا، عنايت عطار، ناصر نعسان آغا، إبراهيم حسون، أحمد برهو ... إلخ. جوقة تجمع تراكمات الحياة المعاشة، بشؤونها وشجونها، برغباتها وإهتماماتها، بوجوهها وتفاصيلهم، ويرفعونها لئلا يهزها الموت، ولئلا تكون قرباناً على مذابح الآلهة، يرفعونها لتبدأ بها رحلتهم الطويلة الأمد، إنهم أناس حقيقيون مرتبطون بالإنسان بقدر إرتباطهم بحلب، المدينة التي طالما بقيت ولودة لقلاع جديدة ستصبح فيما بعد جزءاً مهماً من معالمها، ومن ذاكرتها التي لا ولن تشيخ، بل التي طالما بقيت تسرد حكايا لسموات تأبى إلا أن تحمي حلب. 

والفنان الذي نحن بصدده في هذه القراءة نزار خطاب (حلب 1969) ينتمي إلى تلك الجوقة وتلك الذاكرة، فهو فنان مجتهد على طريقته الخاص، صاحب تفاؤل مستقيم، تفاؤل يدعوه إلى التبشير للسلام والجمال مهما كانت ظروف المكان محبطاً ومتفاقماً، مهما كان الألم عميقاً فهو يستخدم المفهوم الإنساني بالذات، يستخدمه بقوة وثبات وإخلاص كي يبقى المثل الأعلى مجسداً في الإنسان غاية الفن والجمال .
نزار حطاب يطرح ما يمكن أن نسميه الإقتران بحتمية الوصول في إطارها الإجتماعي الإنساني، الجمالي الإبداعي، وكلما كان التفاوت بينها غير واضح كان الإقتران على أشده، وهذا لا يلحق الضرر بما هو واقعي بل يمنحه دلالات تجعل له معنى ومغزى، ودون أن تخضعه لنمطيات من الإمكان نسفها دون تدخلات قوى العالم الآخر، ودون أن يلغي ما هو ملموس الذي سيظهر عنده في أشكال وإتجاهات يمكن إعتبارها تصورات لجمهرة كبيرة من معلومات ستسرد لاحقاً بهدوء وتأمل كل مقاماتها، والحطاب يتجنب تقديم تصوير دقيق للحياة، بل يضع المفارقات الشتى في نصب عينيه، المفارقات التي تبدو غريبة وغير اعتيادية ومرتبطة إلى حد ما باتجاهات إستثنائية ستكون صدى لتلك الحياة لكن بلمسات مختلفة خاصة به، فلا حصر للحدود عنده، ولا سبيل لديه لمصالح الحياة اليومية، فكل المعطيات عنده تشير إلى إستيقاظ الفعل المحسوس لديه بظروفه الإنطلاقية، ساعياً لتطويره ليكون أكثر إنسجاماً، وأكثر تناغماً مع المقدمات الأولى ومع ما يحيط بها من تبعات ملائمة، فهو يحقق نقلة نوعية في تجاوز الأوهام، وما سقوط الترهلات التي تشوش الأذهان من جعبته إلا تعليلاً نافعاً من الوجهة المعرفية وكنتاج لسيرورة الفعل ذاته وهو يتجلى في مصائر الحالات والصراعات الحياتية تجسيداً لها في تطور عوالمها الداخلية وما ترافقها من حركات هي بالمجمل تنبوءات لبعض المسائل التي لم يتم حلها أو كشفها بعد. وهذا مرتبط بغابته الفكرية القائمة في ذهنه، وبمدى بسطها كموضوعات جمالية في الزمان وفي المكان مع الإختيار الصائب للبناء الفني.
والحطاب لا يحتار في حل القضايا الفنية التي قد تبرز أمامه، ومن الطبيعي أن يلجأ إلى المخزون الذي راكمته التجارب الكثيرة، إضافة إلى طرحه لمضامين الظواهر المطروحة أمامه بصدق وتركيز فالسمات الجوهرية لدوائره غير محددة، ورغم ذلك يدهشنا دائماً بحلوله الفنية وما تقتضيها الضرورات الداخلية للموضوع المعالج في مجمل أعماله، وهذا من شأنه أن يرفع درجة حريته في مجالات بنائه الفني غير المحدودة .

نزار الحطاب يسبر أعماق الحياة، ويلتفت للواقع المعاصر له حتى يبرز أمامه عالماً كاملاً متنوعاً إلى ما لا نهاية في ظواهره متناقض ومتحرك ومتغير، وما وجوهه الحالمة في مزرعته الفنية إلا كسراً للنمذجة، وتعميماً جمالياً يخدم أغراض التصوير التاريخي الملموس لديه، فهو يفتش ويختار من الوجوه ما تحمله من زبد الحياة بتياراتها العميقة، ويصور ما هو جوهري فيها، وإن كان يلاحظ عليها التغيير المتبدل، فنرى فيها ما هو ثابت، راسخ، متكرر، أو ما هو فردي أقرب إلى الأنموذج، وفرز الخيوط المتقاطعة بين الحالتين مهمة في غاية الصعوبة والتعقيد. 
ويبذل الحطاب من الجهد الكثير حتى يمضي بهما نحو الخلاص، حتى يمضي بهما وبما يترتب عليهما من شعور المتلقي بالبعد والنفور، أو بالقرب والتسلل نحو سمات وجوهه المرتبطة بالمثير الجمالي من جهة تركيبه وغموضه وجدته، أو من جهة إلتقاطه للمعلومات ثم معالجتها والتعبير عنها حتى تنزاح بعيداً أو قريباً لتستثير الشعور على الرغم مما نعرفه من صعوبة القيام بمثل هذه المهمة، وقد تكون تلك المسافة المزاحة هي الحاملة للقيم المعرفية، وللتفضيلات الجمالية التي ستميز تركيباته البصرية ومكوناتها الأساسية في ضوء فهمنا الجديد لها، فهو لا يواجه الأشياء مكرهاً بل إستجابة لتأملاته وما تحمله من حب، ولديه من الخبرة تراكمات تجعله أكثر تركيزاً على خصائص الشكل بقيمها العليا التي تحمل جمالياتها بكل مظاهرها التي تستجيب للذائقة الفطرية بقدر إستجابتها للذائقة المثقفة والمهذبة، وهذه ميزة لا يقدر على فعلها إلا القلة من الفنانين، وحطاب منهم ينتبه لعلامات الجمال بدقة ويعدل من مرونة التفاصيل وأهميتها، وما لها من منح القدرة له حتى يكون قادراً على تغيير الزاوية الذهنية لوقفته، الزاوية التي تجعل من عوالم التفاصيل بالكشف على تصميمات جديدة ترتقي به نحو أمكنة مشبعة جمالياً، مولعة بالحلم، الحلم الذي يعيه الحطاب كمفهوم ممتع يثير الإنفعال من جانبه الإيجابي، منه يستلهم ما يحققه من إنجاز بنية العمل، بوصفها بنية معطاة مشتملة في الوقت نفسه على أفقين، أفق التوقع المفترض في العمل، وأفق التجربة المفترض في المتلقي، بنية عليها ينهض سر وجوهه التي تكتوي بإحتمالات رؤيوية مفتوحة على الحياة بموضوعاتها الكثيرة، مفتوحة دائماً لمعايشة أبعاد جديدة ترتبط بشكل وثيق بذلك السر الذي يسكنه، ويسكن وجوهه بتنوعها وإمكانيتها، وقدراتها في تجاور العلاقات المتخيلة التي لا تنفي أن جريانها يتم من لحظة شروعها في فتح مجراها وفق ما يؤمن لها البقاء، إلى لحظة تشكلها للمضي بصمتها وحلمها في ذاتها الموغلة في المجيء فلا يبقى منها إلا ما تهفو إلى المكاشفة عن الإنفتاح وعن لحظات التقاطع التي تعلن عنها الموجودات المنتشلة من هول وجوهه وتأملاتها، ومن هول مواجهاتها للغة حملت مقاماتها في ذاتها، وأصغت كثيراً لحلم الغياب.