نظرة إلى تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي

مصطفى النشار يفضح أساليب "السفسطة" و"ميكانيزمات" المغالطة والجدل العقيم!
زيارات فلاسفة اليونان الأول للشرق، وتعرفهم على آراء الشرقيين التي طرحوها بشكل مباشر أو غير مباشر هو الذي دفعهم لإعادة التفكير فيها من جديد
المؤلف يشيد باكتشاف أرسطو لعلم قوانين الفكر

أعترف أني لست رجل فلسفة ولا أتفلسف، ولكن الكتاب أعجبني لما فيه من تأصيل يربط الحضارات برباطها الطبيعي من اجتهادات العقل البشري منذ وجد الإنسان وصنع حضارته.
عنوان الكتاب "تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي"، وهو صادر في القاهرة عن "الدار المصرية اللبنانية"، ويتناول بالشرح ثلاثة موضوعات فلسفية عن: السوفسطائيين، وسقراط، وأفلاطون.
وفي تصديره يشير مؤلفه الدكتور مصطفى النشار، الأستاذ بجامعة القاهرة إلى أن الفلسفة نشأت أول ما نشأت في الشرق القديم، وخاصة لدى من أسسوا حضاراته الكبرى في: مصر، وبابل، والهند، وفارس، والصين.
 أما الفلسفة اليونانية فقد ظهرت منذ أوائل القرن السادس قبل الميلاد على ساحل "أيونيا"، متأثرة بما سبقتها من فلسفات الشرق القديم.
وقد تبين هذا التأثير من عرض الفلسفات السابقة على السوفسطائيين ذات الأصول الشرقية المختلفة؛ بمعنى أنه كان من المستحيل أن تظهر هذه الفلسفات اليونانية على هذا النحو من الغزارة، وتعدد الموضوعات، وتشعب الآراء، فجأة ودون مقدمات. 
كانت المقدمات جميعها شرقية، وكانت زيارات فلاسفة اليونان الأول للشرق، أو تعرفهم على آراء الشرقيين في تلك الموضوعات التي طرحوها بشكل مباشر أو غير مباشر هو الذي دفعهم لإعادة التفكير فيها من جديد.
ومع ذلك فالفكر اليوناني تميز بخصائص جديدة منذ نشأته، وقد ميزته هذه الخصائص عن فكر الشرق، وجعلت الفلسفة اليونانية متميزة عن الفلسفات الشرقية القديمة السابقة عليها.

اكتشاف أرسطو لـ"علم المنطق"، الذي هو علم قوانين الفكر، هو الذي مكَّنه من كشف مغالطات التفكير السوفسطائي، وفضح أساليب السوفسطائيين في الجدل

ولهذا يقول المؤلف إن التجربة اليونانية قد بدأت ملامحها تتبلور مع ظهور مجموعة حكماء اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد؛ أولئك المعلمون الذين لقبوا أنفسهم بـ "سوفسطائيين".
فما معنى الفلسفة السوفسطائية؟
أطلق المعلمون على أنفسهم لقب "السوفسطائي" Sophist وهو مشتق من لفظة Sophos التي تعني الحكمة أو المهارة؛ أي أن السوفسطائي كان هو ذلك الشخص الماهر الحاذق في فن معين من الفنون.
ولماذا انحرفت السوفسطائية وأصبحت معرضة للنقد؟ 
يجيب الدكتور النشار عن هذا السؤال بقوله: إن لذلك أسبابًا أولها: أن كل محاولة من قِبَل أي فيلسوف، وليست من قبل السوفسطائيين فقط، لكشف غوامض الطبيعة واستجلاء أسرارها كانت دائمًا ما تُقابل بعدم الثقة والرفض من المتدينين، وأهل التقوى، والورع، الذين كانوا يتمسكون بكل ما في ديانتهم من أساطير نُسِبت إلى آلهتهم.
ثانيًا: أن غالبية اليونانيين كانوا يحترمون النزعة الأرستقراطية، والتقاليد الارستقراطية، ويُنزِلون أصحاب الحرف ممن يتلقون الأجور على أعمالهم منزلة أدني. ولما كان السوفسطائيون في غالبية الأحوال من الأجانب الغرباء على "أثينا"، فضلًا عن تناولهم الأجر مقابل التعليم، فقد كان من الطبيعي أن ينظر إليهم من قِبل الأثينيين هذه النظرة المتدنية.
ثالثًا: أن تلقي هؤلاء للأجر مقابل التعليم كان يعني ببساطة أن القادرين من الأغنياء هم فقط الذين يمكنهم التعلم؛ بينما يبقى جمهور الشعب بعيدًا عن التعليم، محرومًا منه، فيفقدون بذلك السلاح القوي الذي كانوا يحتاجون إليه من التعبير عن أفكارهم والدفاع عن أنفسهم.
رابعًا: أن المعارضة القوية التي ووجهت بها الحركة السوفسطائية من قِبَل سقراط، وكان من أقوى الشخصيات الأثينية تأثيرًا، ومن تلميذه أفلاطون الذي خصص الكثير من محاوراته لمعارضة آراء السوفسطائيين، ووصفهم في تلك المحاورات بأسوأ الصفات، وهاجمهم هجومًا عنيفًا. لفقد وصف أفلاطون السوفسطائي في "محاورة بروتاجوراس" بأنه التاجر الذي يتاجر في نوع من أنواع العلم، الذي هو "فن الكلام"، و"العلم بالفضيلة"، فهو تاجر بضاعته الكلام.
 وفي محاورة السوفسطائي شن حملة عنيفة وانتهى إلى تعريفه بأنه "صائد يصطاد الأغنياء من البشر" وبأنه "تاجر وبائع يبيع التعليم لقاء الأجر"!
أما أرسطو فقد ركَّز انتقاداته على لغة السوفسطائيين، ومنهجهم الجدلي الذي وصفه بـ"المغالطي".
 وقد خصص "أرسطو" كتابين من مؤلفاته المنطقية لنقد المنهج السوفسطائي في الجدل وهما: "الجدل - الطوبيقا"، و"الأغاليط – السوفسطيقا". 
وقد انتهى في "الجدل" إلى اعتبار أنه فن لا يمكن أن يرقى إلى منهج لتحصيل المعرفة العلمية، كما انتهى في "الأغاليط" إلى وصف السوفسطائي بأنه منتحل للحكمة الذي هو ليس بحكيم.

وهكذا عرّضت كتابات: "أفلاطون"، و"أرسطو"، وقبلهما "سقراط" إلى نقد السوفسطائية واتهامها بالاتهامات السابقة.
وكان "أفلاطون" التلميذ المخلص لـ"سقراط"، يجتهد ليستأصل الفكر السوفسطائي من بلاد اليونان بمناقشته مرات عديدة عبر محاوراته المختلفة، ولكن منهجه اختلف عن منهج أستاذه؛ فقد كان من الصعب على "أفلاطون" أن يواصل رسالة أستاذه الإصلاحية على صعيد الواقع، والمشاركة الفعلية فيه، كما كان أستاذه يفعل، وإنه كان من الصعب عليه كذلك أن يتجول في الشوارع والأسواق لمطاردة المدعين وكشفف ادعاءاتهم، كما كان يفعل أستاذه؛ لأنه قد أدرك نتيجة ذلك، فقد كانت حياة "سقراط" هي الثمن الذي دفعه نتيجة مواجهة الفكر الخاطئ مواجهة عينية عبر الجدل المباشر مع أصحابه، فاختار المواجهة عن طريق الحوار الفلسفي المجرد، وليست المواجهة المباشرة على أرض الواقع. 
وقد نجح أفلاطون في هذه المواجهة النظرية المجردة، سواء عبر الحوار الفلسفي المجرد في كتاباته، أو عن طريق الحوار التعليمي المباشر مع خاصة تلاميذه في "الأكاديمية". 
لكن هذا النجاح النظري الذي بلغ أوجه عند أفلاطون، حينما قدم عبر محاوراته النضج لمذهبه الفلسفي الشامخ، ثابت الاركان، متعدد الجوانب، من خلال اكتشافه فكرة "المثال"، والعلو على الواقع المحسوس، وإعادة اكتشاف رداءته من خلال التحليق في العالم المعقول مناط الحقيقة "الحقة"، ووجود "الموجود". 
فنجاح "أفلاطون" في بناء مذهبه الفلسفي العظيم لم يكن من نتائجه القضاء الفعلي على الوجود السوفسطائي، وعلى الفكر السوفسطائي. ولذلك كان على تلميذه أرسطو طاليس أن يعيد الكرة، ويعيد التفكير، فيكتشف المنطق الصحيح للفكر الإنساني والتفكير، ويصوغ القوانين الصحيحة للفكرة، تلك القوانين التي - إن خالفها الإنسان - جاء فكره متناقضًا مليئًا بالمغالطات.
إن اكتشاف أرسطو لـ"علم المنطق"، الذي هو علم قوانين الفكر، هو الذي مكَّنه من كشف مغالطات التفكير السوفسطائي، وفضح أساليب السوفسطائيين في الجدل، وهو الذي أطلق عليه "الجدل المغالطي" أو "الأغاليط السوفسطائية العقيمة" التي لا طائل من ورائها، ولا فائدة علمية ترجى منها، اللهم إلا ضياع الوقت والتَّوهان في مجادلات لفظية محملة بأساليب المغالطة السوفسطائية، وإن لم ينسوا التعاليم السوفسطائية في الأخلاق والسياسة والدور الإنساني لصنع الحضارة.