نوبل للسلام لجون لينون


ربما سيجد جون لينون إن بقي حيا في الثمانين من عمره المدينة المثالية التي صنعها في أغنية "تخيّل" دمرها فيسبوك بدولة مارقة يصل سكانها إلى أكثر من ملياري مستخدم.
بعد ثمانين عاما من ولادة جون لينون، ستكون منصة السلام التي وقف عليها وغنى من أجلها قد نمت بالنسبة للبعض القليل من الناس وسط الاحتقان الذي بات سببا للتفرقة

لقد صنعت الصحافية البريطانية ميلاني فيليبس قصتها من تعليقات القراء على ما كتبته هذا الأسبوع في صحيفة التايمز.

ببساطة متناهية، لا ينتهي مقال فيليبس الحاصلة على جائزة أورويل للصحافة، بالفكرة المقترحة والمتسائلة عما إذا كان يمكن منح جائزة نوبل للمغني جون لينون، في استذكار حزين للمغني القتيل وهو يبلغ الثمانين من العمر، دون أن يكمل نصفه في الحياة. بل في مشاركة قراء الصحيفة البريطانية التي تقدم محتواها باشتراك أسبوعي أو شهري!

لقد تفاعل القراء مع مقال ميلاني فيليبس، لأن الصحيفة ما زالت المساحة الصحيحة للنقاش المفيد، بعيدا عن التعليقات السامة التي تترهل بها مواقع التواصل الاجتماعي! إلى حد أن أحد قراء التايمز كتب “على الرغم من أنني لا أتفق دائما مع وجهة نظر ميلاني فيليبس، إلا أنني أستمتع دائما بقراءة عمودها. إنها تتحداني للتشكيك في معتقداتي. وتلك بالنسبة لي سمة الصحافي الجيد”.

ماذا يعني هذا التفاعل مع مقال في صحيفة لا تقدم محتواها إلا باشتراك مدفوع، غير أن الفكرة السائدة والمتصاعدة عن موت الصحافة الورقية وأن الصحف لم تعد تستقطب القراء، ليست صحيحة بشكل نهائي.

صحيح أننا يمكن أن نجد الآلاف يتجادلون على فكرة ما بغض النظر عن قيمتها على منصات التواصل، لكن هذا النقاش السام لا يعدو أن يحمل فائدة مئة تعليق يكتبها القراء على مقال في صحيفة ورقية بوصفها الطريق الأمثل للنقاش المفيد.

تتساءل فيليبس “هل كان لينون يستحق جائزة نوبل؟” وتقول لو كان على قيد الحياة، لكان أحد أصوات فريق البيتلز في الثمانين من عمره هذا الأسبوع، لكن رؤيته الطوباوية للفن والحياة كانت ستفسد وسط هذا الانهيار القيمي المريع الذي يشهده العالم في عصر مواقع التواصل الاجتماعي.

كان خبرا مهولا عندما أعلن في الثامن من ديسمبر عام 1980 عن مقتل مغني وملحن وكاتب الأغاني في فرقة البيتلز، جون لينون بالرصاص.

مثّل لينون حقبة، إن لم يكن أهم رموز الستينات والسبعينات عن السلام والعالم الواحد الذي يقطع مع التقسيمات والشروط المخيفة التي وضعها السياسيون ورجال الدين على حد سواء.

ربما استذكار صاحب أغنية “تخيّل” بعد أربعين عاما من مقتله، يضفي طابعا رومانسيا على الماضي، لكن رؤيته للحياة وأفكاره الطوباوية تعد مثالا، يبدو العالم بحاجة ماسة لها اليوم وسط الفرقة والخلاف الذي تثيره وسائل الإعلام في العصر الرقمي.

وبعد ثمانين عاما من ولادة جون لينون، ستكون منصة السلام التي وقف عليها وغنى من أجلها قد نمت بالنسبة للبعض القليل من الناس وسط الاحتقان الذي بات سببا للتفرقة داخل المجتمع الواحد.

ومع إعلان جوائز نوبل هذا الأسبوع، يرى صديقه المغني إلتون جون “لو استمرت فرقة البيتلز، لكانت الفرقة أو لينون نفسه قد فازا بجائزة نوبل للسلام”.

ويدافع جون عن فكرته بأنه سمع هذا الكلام من أقرب الناس إلى لينون بالقول إنه بذل كل ما يقدر عليه من جهد من أجل إيصال أفكاره الإنسانية إلى الناس، ولم تردعه الضغوط التي مورست عليه، لقد كان محبا للسلام، رائعا، كنزا معبّرا نحن بأمس الحاجة لأشخاص مثله اليوم.تلك السمات الجذابة في جون لينون تجسدها أغنيته الباهرة “تخيّل” التي لا يمكن أن تفقد تعبيريتها بعد عشرات العقود، لأنها تجعل من الإنسان قيمة عليا بغض النظر عن دينه ووطنه ولونه، إنها نشيد عظيم عن المدينة الفاضلة “تخيّل لو لم تكن هناك جنة/ ولا جحيم تحتنا/ تخيّل لو أن كل الناس عاشوا ليومهم/ تخيّل لو لم تكن هناك بلدان/ لا شيء يستحق القتل أو الموت لأجله/ ولا حتى عقيدة/ تخيّل لو أن كل الناس/ عاشوا حياتهم في سلام/ ويصبح العالم واحدا/ فلن تصبح هناك حاجة للطمع أو الجوع/ والناس إخوة/ تخيّل كل الناس/ يتشاركون كل العالم”.

أصبحت تلك الأغنية وما زالت النشيد غير الرسمي للعالمية والتكافؤ الأخلاقي. فقبل سنوات اقترحت إدارة مدرسة في جزيرة كورسيكا الفرنسية معالجة منسوب العنصرية المرتفع في الجزيرة إلى اقتراح أن يتعلم التلاميذ أداء الأغنية باللغات الفرنسية والإسبانية والعربية والكورسيكية في نص مستوحى من تعبيراتها الإنجليزية.

كان لينون مبدع تخيلات السلام. ففي عام 1969 حث وزوجته يوكو أونو الناس على التجمع من أجل السلام في أمستردام ومن ثم في مونتريال، حيث كتب وسجل أغنيته “أعط السلام فرصة”.

تقول “الحكاية” التي يجب أن نصدقها على أهميتها إن صحت أو صنعتها أسطورة التداول عن ألفريد نوبل، إنه بعد الإبلاغ عن وفاته عن طريق الخطأ في عام 1888، شعر بالرعب عندما رأى نفسه يوصف في نعي إحدى الصحف بأنه “تاجر الموت”. لذلك أنشأ جائزته التي تحمل اسمه لمكافأة الأشخاص الذين “منحوا البشرية أكبر فائدة ممكنة”. أراد أن تُمنح جائزة السلام لشخص قدم “أعظم خدمة لقضية الأخوة الدولية”، مع ذلك فقد تحولت الجائزة إلى منصة خلاف وجدل عندما منحت لأفراد لم يُتفق عليهم غالبا. فجائزة نوبل للسلام لم يتم تسييسها فقط، بل أصبحت أقل ارتباطا بالإنجازات من أجل السلام.

لو كان لينون حيا اليوم ماذا سيرى في عالم تسيره امبراطوريات التكنولوجيا العملاقة وتحرك مشاعر الأفراد في خوارزميات تجارية تهدف إلى الربح؟ سيصاب بالذهول من “إلغاء” فكرة الاختلاف وانقراض التفكير العقلاني بين الناس، حيث أصبح الأفراد يُعرّفون أنفسهم بمنصاتهم الاجتماعية بما يكرهون “أنا أكره إذا أنا موجود” وساعد الإعلام الرقمي على تفاقم البغضاء والتمييز في سياسات الهوية وتقديس الأنانية.

ربما سيجد لينون إن بقي حيا في الثمانين من عمره المدينة المثالية التي صنعها في أغنية “تخيّل” دمرها فيسبوك بدولة مارقة يصل سكانها إلى أكثر من ملياري مستخدم.