"نوكيا" السعادة لؤلؤة مستحيلة

عنوان رواية باسم سليمان يمهد لانتقال سريع من عصر إلى عصر مغاير على المستوى القيمي والمفاهيمي للوجود الإنساني.
ما يريد أن يحكيه الراوي بطريقة تثير شهوة الركض خلف اللذة الممنوحة للنص لفضاء مسكوت عنه تاريخيا
الرواي يخاطب قضايا ماثلة للعيان في وقتنا الراهن

ديلمون، الجنة، أطلنطس القارة التي غرقت بسبب تجبر أهلها، كل ما سبق، هو يوتوبيا تنهيها الخطيئة؛ ليقوم على خرابها الواقع، الخطيئة التي يجب أن نرتكبها ليعمر وجودنا "لست في هذه القراءة بصدد تقديم شرح للحكائية الاعتيادية فعتبات النص المعنونة (القفلة، اطلنطس، الهبوط، الغرق، الخلود) إنها تجسيد أوديبي" لحالة آدم الأبدية صعودا إلى الحياة. 
لا أجد أفضل من هذا الاقتباس من رواية "نوكيا" للكاتب السوري باسم سليمان الصادرة في طبعتها الثانية عن دار سين للطباعة والنشر في دمشق. 
كثيمة تحقيقية لطبيعة النص المستلهم من فكرة السقوط التاريخي، أو العنف المدرك القائم على استدلال الخطيئة وتعويمها. بعد أن نتجاوز عتبة العنوان (نوكيا: وهو أحد أجيال الهواتف الذكية التي ظهرت خلال بدايات القرن الواحد والعشرين) الذي يمهد لانتقال سريع من عصر إلى عصر مغاير على المستوى القيمي والمفاهيمي للوجود الإنساني.
فقراءة ما خلف النص ما يريد أن يحكيه الراوي بطريقة تثير فيك شهوة الركض خلف اللذة الممنوحة للنص لفضاء مسكوت عنه تاريخيا، ولكنه يخاطب قضايا ماثلة للعيان في وقتنا الراهن، وفي الآن نفسه القفز فوق ثيمات النص لقراءة واقع انثربولوجي (لأنسنة) الأدب، من أجل تفكيك تكنيك العمل الروائي وصوره الجمالية أولا واستعداده لفتح باب التأويل لقراءة فيها جانب من التناص السردي، وهي قراءة منتجة في السياق السردي الجديد، القراءة التي تؤلب العقل، إنه سرد ونص مكتوب على كل البحور بحر السلطة، الجنس الحب، الموت، الثورة، الخصي الذهني في المقام الاول ثم العضوي بحر الفساد والرذيلة. 
بعيدا عن الحكائية التي تبرز الشخوص في حالة مداورة حول الذات الفردية وعلاقتها مع المحيط والبيئة تتوارد للقارئ أهمية المكان. 
"عندما تخلع المدينة ثيابها لا تعود إليها أبدا، طوطوس تتغير، تتوسع، تتضخم حتى كورنيشها قسم قضمة طويلة من شطها، ومد لسانه محاولا أن يتذوق جزيرة أرواد، أستغرب من نفسي، وأنا أتكلم عن التغيير المكاني".
"الفضاء"، وهو يعني في طياته الخواء والفراغ، وأيضا يعني الخلاء المكاني، وقد يكون  "الحيز"، لدى شخوص الحكاية المشبعين بأزمة الوجود انطلاقا في بداية الرواية من جلدة الشهوة الزائدة مرورا بالأبواب كهواجس لأسئلة لا تنفك في خضم الهروب إلى الأمام، والعلاقات الاستهلاكية، والحديث عن احتلام لا يريد أن ينضج. 

غلاف الكتاب
عندما تخلع المدينة ثيابها لا تعود إليها أبدا

"ما أكثر الأبواب، إنها كالتاريخ الذي نعرفه، نظل نصقله، ونزيل عنه نتواءته، لكن صوت الصرير سيظل".
النتوء، والوزن، والحجم والشكل، وهو الشيء المبني في فضاء مكاني، وهو أيضا الامتداد المتصور، فالفضاء بمثابة الوعاء الضخم الذي يستوعب بداخله الأمكنة المختلفة: الكون بمجراته ونجومه وكواكبه، والأرض بما عليها، وإن كانت دلالة الفضاء لدى ذات الشخوص الضائعة تعني: الفراغ والخواء وأيضا العدم.
  حياة الانسان المنقسمة، كـ "أحجار الدومينو المتساقطة التي لا يمكن إيقافها بكسر السلسلة" نستطيع أن نتصور تطور السردية الحكائية المنحدرة باتجاه خنق الماضي، وتجاوز جثثنا المتأكلة في سباق الزمن اللاهث في العصر الليزري السريع، التخطي هنا كمنهج للانفلات من ربقة الذات الأولى الحاجات" كما في هرم "ماسلو"، باتجاه تمثيل السلطة ليس بمعناها العام المعروف، إنما كرافعة ثقافية متجاوزة للألم الوجودي.
البطل المتجاوز يرث رفاقه، يقتلهم ليحيا بعد أن خرج من هيئة السمكة (العزلة)، لم يكن البحر الممتد أمامه سبيلا للأفق أو البعيد بقدر ما كان غرقا في عزلة سوداء كان يلجأ إليها حالما بغرفة في وطن مغلق.
و"التخييل المخدر أشد خطرا من الهيروئين وموضوع الكتابة تمثيلية متقنة من قبل الجميع التخييل الذي أقصده أحلام اليقظة بشكل أو بآخر تتراكم لدرجة انحدارها- في وقت ما - كسيل يأخذ في طريقه كل شيء، ويعيد العمران للحظته الأولى، إنه أشبه بثورة بركان".
في عمل باسم سليمان نجد إحكاما لهذه الدائرة بين ما ذهب إليه باشلار حول جماليات المكان، وجنائزية الاعتزال في قول سارتر الآخر هو الجحيم. متطهرا بالتخمين. هنا يدخل في آلية الصورة المسترجعة النيغاتيف متسائلا حول جدوى الذاكرة القاتلة لفعل الحياة نفسه. تبدو من خلالها السعادة أو اللذة كمفهوم براغماتي أشبه باللولؤة المستحيلة.
فارضا في الختام مشهدا دارمتيكيا تخييلا لكارثية الحياة ذاتها تنتهي بكلمة (cut)  كدلالة على فعل خارج عن السيطرة وسلطة الإنسان وعائدا بها إلى مرحلتها الجنينية في عيني طفل يعود إلى حصن أمه، ويربت والده على كتفه.