"نومادلاند" دراما من أجل البقاء

المخرجة الأميركية من أصل صيني كلويه تشاو أُعجبت بفكرة كتاب جيسيكا برودور "نومادلاند أو البدو الرحل" الذي كان بمثابة دراسة ميدانية لضحايا أزمة الرهن العقاري.
اختيار الممثلة الكبيرة فرانسيس مكدورماند منح الفيلم زخما من القوة
الفيلم أظهر جمال الطبيعة التي أصبحت بيتا للبدو الرحل

من يصدّق وجود البدو الرُحّل في أميركا؟
هذا ما كشفته الكاتبة الأميركية جيسيكا برودور في كتابها "نومادلاند أو البدو الرحل" الذي نشرته عام ٢٠١٧، والذي تناول تداعيات أزمة الرهن العقاري عام ٢٠٠٨، تلك الأزمة التي أدّت إلى فقدان الكثير من الأميركيين أعمالهم وبيوتهم، وأصبحوا تحت خط الفقر،بعد أن تحوّلوا إلى بدو رحل، ينتقلون في سياراتهم للبحث عن عمل موّقت أو موسمي، لسد حاجات لقمة الخبز، وجلّ هؤلاء حسب الكاتبة برودور من شريحة كبار السن، الذين وجدوا أنفسهم فريسة الإملاق في أغنى بلدان العالم. 
المخرجة الأميركية من أصل صيني كلويه تشاو والمشهورة بالأفلام الهجينة، والتي هي مزيج من الأفلام الوثائقية الممزوجة بالأدب الروائي، أُعجبت بفكرة الكتاب، الذي كان بمثابة دراسة ميدانية لهذه الشرائح، من خلال تنظيم العديد من المقابلات والحوارات معهم، أجرتها الكاتبة جيسيكا على مدى سنوات، لذا فقد كان هذا الموضوع هدفا للمخرجة كلويه تشاو لتنفيذه سينمائيا، ولكنها لم تلتزم بفصول الكتاب إلا ما يتناغم والمسار السينمائي. 
وفي محاولة منها لتلمس مساحة من الواقعية، فقد طرحت على بعض هؤلاء البدو فكرة تمثيل حياتهم، وتجسيد سلوكهم اليومي بتلقائية في التشرد والعمل والتنقل، ورغم وجود الكاميرا وتوزيع الأدوار وإعادة المشاهد والصور والحوارات، ولكنّ هذا لم يؤثر على أجواء العمل، بل بالعكس كان البدو أقرب لتجسيد شخصياتهم من الممثلين المُحترفين، بل وصل الفيلم أعلى تقنياته من خلال حرارة الحوار وصدقه، ومن خلال العلاقات الحميمة بين الممثلين (البدو) أنفسهم.
كان اختيار الممثلة الكبيرة فرانسيس مكدورماند قد منح الفيلم زخما من القوة، وذلك لما تتميز به من قدرات ومواهب، فهي ممثلة سينمائية ومسرحية وتعبيرية، وقد حصلت على العديد من الجوائز، ومنها جائزة الأوسكار عام ٢٠١٨ عن دورها في فيلم "ثلاث لوحات خارج ايبينغ"، لذلك فقد تألق الفيلم معتمدا على ثقله الاحترافي وعمقه التلقائي. وكما توقع النقاد فقد فاز هذا الفيلم بثلاث جوائز ثمينة في التصوير والموسيقى والتمثيل.   
يتناول فيلم نومادلاند حياة امرأة أميركية في الستينيات من عمرها تدعى فيرن، فقدت وظيفتها على إثر الأزمة المالية العالمية التي انفجرت عام ٢٠٠٨،  والتي اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ الكساد الكبير. كما فقدت بيتها أيضا، ولذلك فقد أصبحت سيارة الڤان القديمة منزلها ووسيلة عيشها وتنقلها. 

وفي خضم بحثها عن العمل الموسمي، تلتقي بالكثير من الناس الذين فقدوا بيوتهم وعملهم، وظلوا يعيشون من أجل البقاء، ونستطيع أن نتلمس من خلال الفيلم روح التعاون والوشائج الاجتماعية التلقائية بين هؤلاء الذين استطاعوا أن يتحرروا من العزلة الاجتماعية الصارمة التي يفرضها أسلوب الحياة في الغرب، والقائم على الفردية في السلوك والملكية، هؤلاء الناس أسسوا حياتهم اليومية تحت شعار "ألقاك في الطريق"، الذي جعل العلاقات الاجتماعية تتدفق، فلا تجد فردا يعيش محاطا بهمومه ومشاغله، بل مجموعة تتبادل الخبرات المختلفة والهموم المشتركة، وتتعاون بشكلٍ وثيق لمواجهة العثرات والصعوبات وحتى الإحباطات النفسية، من خلال فيرن (فرانسيس مكدورماند) وتحوّلها إلى بدوية مترحلة نكتشف بشاعة الشركات الرأسمالية العملاقة التي تحوّلت إلى ثقوب سوداء لالتهام ما يحيط بها من بشر لا يمتلكون سوى جهد عملهم.  ولكنّ هذه المرأة لم تستسلم إلى اليأس، لأنها وجدت في بؤرة هذا الرحيل والتنقّل حالة من الاستقرار النفسي، انعكس على سلوكها فقد كانت فيرن مضطربة وعنيدة ومستقلة، ولكنّها انصهرت مع هؤلاء المجاميع من البشر الذين فقدوا رصيدهم المالي، واستبدلوه بثروة من العلاقات الإنسانية التي تؤمن بالمصير المُشترَك، لذلك فقد كانت سعيدة معهم، وكأنهم كيانٌ عائلي موّحَد. 
لقد أظهر الفيلم طبيعة الحياة الحادة والقاسية لهؤلاء، من خلال اللقطات لفيرن وهي تتغوط في البراري، أو تتقي برودة الشتاء في داخل سيارتها، وهي تتدثر ببعض الأسمال، ومن خلال غضبها حينما انكسر أحد صحونها، ولجأت إلى لصقه بواسطة الصمغ. 
ولكن من الناحية الأخرى أظهر الفيلم جمال الطبيعة التي أصبحت بيتا للبدو الرحل، حيث الليالي التي تشع بالغناء والرقص، وحيث أشعة الشمس التي تتغلغل بين البحيرات وتتسلق الجبال التي تغرق في فيض من الضوء، لقد قدّم أجمل اللوحات الفنية للطبيعة، لذلك فقد حاز على الأوسكار عن جدارة في التصوير، فقد كان الفيلم قصيدة بصرية تزهو بالأخيلة من خلال اللقطات الشاعرية للطبيعة. 
ورغم أن "نوماد لاند" لم يتناول أمراض العالم الرأسمالي وتناقضاته بشكل مباشر، ولكن مشاهدته تكفي للشعور بالاشمئزاز من التناقضات التي تعصف بهذا المجتمع، والتي تجعل كبار السن لا يتوفرون على الوسائل التي تقيهم ذل الفاقة وهم في أواخر العمر، مع أنهم كرّسوا كل حياتهم الماضية في العمل. لكنّ المنطق الاقتصادي يعتبرهم فائضين عن الحاجة، ويتركهم لمصيرهم في البحث عن الأعمال الموسمية مثل قطف الفواكه أو تنظيف المخيمات أو المطاعم، هذه الأعمال التي تُشبه السخرة، فهي توفر لقمة اليوم بدون أي ضمان صحي أو تأمين حياتي. 
لقد غيّر هذا الفيلم منطق الإنتاج السينمائي الذي كان يعتمد على قواعد معينة، كي يصل إلى إحراز أرفع الجوائز العالمية كالأوسكار؛ ومنها الاستوديوهات العملاقة التي تتطلب التكاليف المالية الباهظة، واختيار النجوم السينمائية الشهيرة. ولكنّ "نومادلاند" اعتمد على معطيات شحيحة في تكلفتها، ولكنها ثرية في عطائها، لقد عمدت المخرجة كلويه إلى تدريب البدو الرحل لتمثيل أنفسهم، باستثناء دورين لممثلين محترفين، فبالإضافة إلى مكدورماند هناك الممثل الذي قام بدور ثانوي، كما أنها استخدمت الطبيعة البكر، لتنتزع منها أجمل اللوحات الفنية التي جعلته يتبوأ هذه المكانة التي يستحقها.