هالة فيصل تنقذ الجسد من متاهات القلق

هالة فيصل تكسر عبر لوحات تعبيرية جريئة وحيوية ومهارة تقنية أحد الأضلاع في الثالوث المقدس وتخرج عن السائد عبر الكشف عن الجسد الذي يتحرك في اللافراغ بروحه النابضة بالحياة والحامل للثورة والدفاع عن الذات والوطن.

حين لجأت هالة فيصل (1959) الفنانة التشكيلية السورية عام 2005 إلى الخروج عارية تماماً في إحدى ساحات نيويورك تنديداً للحرب في العراق ودعوة إلى وقفها كانت تدرك أن للجسد لغة أكثر تعبيراً وأكثر وضوحاً من كل البيانات والإجتماعات والمؤتمرات الخلبية.
 كانت تدرك أن الجسد وما يحمله من معاناة وما يمارس عليه من عنف وإضطهاد هو ذاته الذي يمارس بحق الإنسان والمجتمع والبلاد، كانت تدرك بأنها تخط رسالة عريضة للعالم عن حجم الموت الذي تخلقه وتخلفه الحرب، وكان ذلك أيضاً إشارة إلى حجم الجرأة التي تحملها فيصل، فكل ما قدمته من أعمال تنديداً بالحرب وأزلامها لم تشف غليلها، فكانت صرختها هذه، صرخة الجسد في وجه ظلامه.
ما قامت به فيصل كان عملاً فنياً بإختلاف بعض مفرداتها وخاماتها المستخدمة، كان عملاً فنياً بإمتياز، عملاً يلخص الكثير، قالت فيه هذه المرة وبدوي عال ما كانت تهمس بها في أعمالها الأخرى، قالت جملتها هذه المرة في ضوء الشمس، وبعثرتها بالموجات الأثيرية على المساحات الممتدة في الريح لتصل نقية مشرقة.
هالة فيصل وبتعبيرية جريئة وحيوية، مع مهارة تقنية تكسر أحد الأضلاع في الثالوث المقدس مع إثارات خاصة ومع الخروج التام عن السائد، تكشف عن اللامألوف للعزف عليه، تكشف عن الجسد الذي يتحرك في اللافراغ بروحه النابضة بالحياة، والقادر على التجاورات الإجتماعية بما يحمله من أدوات الثورة والدفاع عن الذات، فهي بشكل أو بآخر و بتوليفة حكائية تصنع فناً تليق بتمردها وكذلك بطريقة طرح وقول موقفها مما يجري من كسر الحلقات و رميها، حتى باتت جميعها مفقودة.
وتعرف أن الزمن أعمى، و أن المقولات التي ترسمها في تعرية هذا الطغيان القذر، هو نوع من الخروج ودون حذر من الأزقة الضيقة إلى الشارع العريض وإلى الساحات حيث الصرخة مدوية ومفتوحة على الجهات كلها، و حيث السماء في لحظات النطق بتنويعاتها الدونكيشوتية تضبط مساراً لا مدلول فيه إلا روابط وفواصل "الكلمة تجسدت في اللحم الحي و صارت تسكن بيننا"، فما يهم هالة فيصل أن الفن حياة ، فلا جدران بين حياتها وفنها ولا حدود.

 فالجريان الحسي نحو تفريغ شحنة العلاقة ما بين زخم الداخل وزخم الخارج تجعلها في حالة رسم موقف إنساني ضمن مناخ يتمثل فيه سفرها نحو الأعماق حيث القيمة الجمالية تتكأ عليها أقصد على القيمة الإنسانية، فهي وضمن موقف قابل للجدل الطويل تدخل لوحتها مفاهيم تتسم بحوار يغلفها إحتجاج صارخ داخل إصغاءات الجسد الموجع لإيجاد نوع من التوازنات بين المخيلة الممتدة كالضوء في حيوية ألوانها وإشتقاقاتها، وبين الأبجدية التي تسعى لترسيخها في رحاب عملها، وهنا تكون الأهمية لتجربتها، فشرفاتها مفتوحة على زمن كل مافيه لَقيط، تمنحها تياراً أشبه بلفحة الشمس وهي تطارد لظى الرغبات، حيث الدفء يحتمي بنزوحات الذات المبدعة وهي تستند على مشاهد أشعلت فيها موهبتها، وتضج بتكوينات منحازة لأفق معرفي ولآخر جمالي، تمنحها تياراً لاذعاً به تخلق وجوهاً تحمل من الطين المشوي رائحته الأسطورية، ومن لمعة الضوء بيارقه و هي تشرف على جسد  
لم يترك القصف فيه نشيداً أو غباراً لعابر محيط، ففي فوضى المكان وبين الدفع والجذب ، وبين التدفق والقبض تنهال بإحساس كئيب على لحظات كثيفة تغيب فيها المتعة الداخلية، فالعناصر هنا في منتهى الغياب . 
هالة فيصل تعمل على إنقاذ الجسد من متاهات القلق، ومن مناخات الفراغ وبقايا التحولات، فهو عندها جملة إيحاءات قادرة أن تحقق التوازن وسط كل هذا الخراب، فهي وبما تحمله من مفاهيم جمالية عنه، تلون بحرها مع شطآنه بأبجدية لا يتقنها إلا من إنتظر في الساحات طالباً بمساء تزينه لآلىء لا الآهات.
 وبناء عليه يمكن القول إن العلاقات التي تنسجها فيصل بين عناصرها التشكيلية ما هي إلا بحثاً عن مضامين دلالية لتلك العناصر في إطارها الموضوعي وهذا ما يجعل عملها قادراً على إمدادنا بكم هائل من تصورات تغذي لغتنا البصرية، المدركة لذاتنا المبصرة وهي تتفاعل مع محاورها الدلالية في واقعاتها البصرية مستوعبة مجمل الإنفعالات في ترابطها وفي نقاط تحركها في حالتي الدنيا و القصوى، الأمر الذي يمنح تعبيرها التشكيلي نوعاً من التناظر بين صمتها و كلامها، بين بعديها التشكيلي والإنساني، وكذلك بين إرتباطها بسياقات مسارها وبين رمي مشروعها إلى المواجهة.
 فهي تدعو على نحو صريح إلى تبني قيم فنية والبحث عن متلق مشارك في الفعل الجمالي لا الهامشي، فهي تعوم في فضاء منه تنساب كل المشاهد غير المؤطرة، وهذا يمنحها قدرة القبض على تجلياتها وتجليات وجوهها، تلك الوجوه الحاملة لمقولاتها الفنية ولمعالم تجربتها ولمغامرتها الجميلة العذبة هذه والتي بها تتخطى الغرف المعتمة نحو فضاءات واسعة، فضاءات فيها تكتشف نفسها ومحاولاتها المعبرة والتي ما هي إلا متواليات صوتية لصرخاتها الإحتجاجية ضد الحرب على إمتداد دمارها في هذه الأرض وضد كل هذا الخراب الذي بات يلاحق أرواحنا وقلوبنا وأجسادنا على إمتداد تنفسنا في هذا الزمن القبيح مثلنا، زمن التيئيس والهزائم ، فكل ما تملكه هالة فيصل من القدرة التعبيرية هي في واقع الأمر صياغات تفعيلية في إحياء المنطق والقيمة الجوهرية للإنسان والحياة متمسكة بطموحاتها ويقينها أولاً و أخيراً بأن الريشة و فعلها أكثر قوة من الرصاص و بشاعته .