هدنة مؤقتة بين الصحافيين ومواقع التواصل

الصحافيون يواجهون تعليقات مجنونة وحمقاء بشكل متواصل على كل فكرة يطلقونها على حساباتهم الشخصية، لكن الأسئلة الأعمق تدور حول ما يعنيه أن يكون الصحافيون، وأن يبدوا، عادلين.
بقي نموذج أعمال الصحافة عالقا في المنتصف، بين أن يشن معركة وجودية على مواقع التواصل وبين أن يتعاون معها

إذا لم يكن بمقدور دونالد ترامب أخذ عشرات الملايين من متابعيه على تويتر بعد مغادرته البيت الأبيض، لأنه سياسي مثير للانقسام، فإن الصحافي قادر على اصطحاب “جمهوره” بمجرد مغادرة المؤسسة التي يعمل فيها.

الصحافي الراحل وكاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز ديفيد كار، كان يصف تويتر بطائرة مروحية موجودة على سطح مبنى الجريدة، تنتظره عند لحظة الهروب!

يقول إن ميزة هذه المروحية على صغر سعتها، أنها قادرة على اصطحاب جمهوره المكون آنذاك من 300 ألف متابع على تويتر!

منذ عقد تقريبا، غيرت وسائل التواصل الاجتماعي ميزان القوى في صناعة المحتوى، وأنزلت غرف الأخبار في وسائل الإعلام الكبرى من برجها العالي.

احتل تويتر مكانا غير مريح في منصة كانت مقتصرة على الصحافيين بوصفهم الخط المباشر لدورة الأخبار، وغيّر المفاهيم في لعبة شدّ الحبل بين العلامة التجارية للمؤسسات الإعلامية والفرد الصانع للمحتوى بوصفه مواطنا صحافيا.

منذ ذلك الوقت، تفاقم الجدل من دون أن يفضي إلى خارطة طريق لإنقاذ نموذج أعمال الصحافة، فبينما يرى البعض أن لا أهمية في عمل الصحافيين لمطاردة الأخبار العاجلة، فثمة من يلتقطها قبلهم بالنص والصورة، وعليهم التفكير في صناعة محتوى مختلف كليا يحرض على التفكير والتحليل، ويقدم المعلومات أكثر من الاكتفاء بمضمون الخبر. يشجع البعض وسائل الإعلام للاستفادة من وسائل التواصل في دعم بناء القصص الإخبارية، مثلما يدفعها إلى التفاعل أكثر مع المتابعين الذين يمثلون بدورهم فرصة لدعم بناء المحتوى الإخباري.

مع ذلك بقي نموذج أعمال الصحافة عالقا في المنتصف، بين أن يشن معركة وجودية على مواقع التواصل وبين أن يتعاون معها.

اليوم الصحافيون يواجهون مشكلة مع إدارة مؤسساتهم التي تمنعهم من التغريد والتصريح، فمن يريد أن يدلي بمعلومة منهم عليه أن تكون ضمن عمله حصرا. الصحافيون يواجهون الرفض من قبل رؤسائهم عندما يمارسون دور المواطن الصحافي، وتتذرع المؤسسات بأن أي تصريح على الحسابات الشخصية يمكن أن يفسر وكأنه يمثل وجهة نظر إدارة المؤسسة.

مدير “بي.بي.سي” الجديد تيم ديفي اتخذ أول قرار في عمله، منع بموجبه الصحافيين من التغريد، مطالبا الموظفين بعدم نشر آرائهم السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي لأنهم بذلك يخاطرون بالسمعة الحيادية للمؤسسة البريطانية.

وفي أول تعليق له بعد استلام مهامه نهاية العام الماضي قال ديفي “إذا أردت أن تكون كاتب رأي في مقال أو مدافع عن حملة حزب ما على وسائل التواصل الاجتماعي، فهذا خيار متاح، لكن لا يجب أن تكون وقتها تعمل في بي.بي.سي”.

هذا الكلام يفسر لنا نبوءة الراحل ديفيد كار عندما عدّ تويتر طائرة مروحية جاهزة للتحليق، بمجرد مغادرة الصحافي مؤسسته!

لكن هذا الهروب ليس نهاية القصة، كما تقول جانين جيبسون، مديرة المنصات الرقمية في صحيفة فايننشال تايمز، عندما ترى هروب الصحافي إلى تويتر يجعله وكأنه متورط في خلافات مهنية مقلقة.

لقد وجد تويتر وفيسبوك ذرائع شتى لتعريف علاقة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع مواقع التواصل، لكنهما مع كل التعريفات التي وضعها جاك دورسي مع موظفيه لتويتر، ومارك زوكربيرغ لفيسبوك، فإنهم جميعا لم يتفقوا على تعريف مثالي يوضح علاقة الصحافي بما يغرد.

سأل دورسي قبل سنوات العاملين معه عن تعريف لتويتر، فكانت كلمات مثل “العالم الحي”، “جحيم يستهلك الوقت”، “حرية التعبير” كانت ماثلة في أفكارهم، لكن لا شيء من ذلك ينطبق على الصحافي، لذلك استعنت بالتعريف السابق للصحافي الراحل ديفيد كار الذي عدّ تويتر بمثابة طائرة مروحية. مع ذلك يبقى هذا التعريف غير جدير بالوفاء وقد يصل متأخرا، أو ربما يحدث ضررا في المفاهيم المتغيرة مع سطوة مواقع التواصل.

تعريف مارك زوكربيرغ لفيسبوك أشبه بفكرة أرسطوية تبدو مثالية أكثر مما ينبغي، عندما اعتبر فيسبوك أكثر من مجرد شركة “بل بناء شيء يغير الواقع، ويحدث تغييرا فعليا في العالم”.

اليوم تبدو ما يشبه الهدنة بين الصحافيين ومواقع التواصل بعد أن ولدت معارك ترامب الرقمية وتجميد حساباته، موجة من التذكيرات الصارمة بأن الصحافيين بحاجة إلى الاحتفاظ بآرائهم لأنفسهم.

لم تنته أصلا معركة الصحافة الوجودية مع السوق والحكومات. والعديد من المعارك حول تويتر هي في الحقيقة معارك حول الصحافة نفسها، والتي يكون منظورها وحكمها محوريا في عصر تتصارع فيه الدول مع عمالقة الشركات التكنولوجية، في وقت يتصاعد الخلاف بشأن الاتفاق على مفاهيم العرق والجنس والسلطة والعدالة والطائفية وحرية التعبير والديمقراطية.

الصحافيون يواجهون تعليقات مجنونة وحمقاء بشكل متواصل على كل فكرة يطلقونها على حساباتهم الشخصية، لكن الأسئلة الأعمق تدور حول ما يعنيه أن يكون الصحافيون، وأن يبدوا عادلين.

هناك مبدأ يجمع عليه خبراء الإعلام يطالب وكالات الأنباء والصحافيين على حد سواء على كتم آرائهم لتجنب الظهور بمظهر المتحيز. ولا يزال العديد من كبار المحررين يعتقدون أنه كلما قل الكلام على وسائل التواصل الاجتماعي، كان ذلك أفضل.

غالبا ما يوجد نقاش سام وغير مفيد ولا أخلاقي يرسم صورة كاريكاتيرية على تويتر، بينما يبقى السؤال الأهم، كيف يجعل الصحافي القراء يثقون به. وفق تعبير الصحافي الأميركي بن سميث.

الأسبوع الماضي أقنعت شركة “مورنيغكونسولت” لاستطلاعات الرأي، نسبة جيدة من الأميركيين للإجابة على سؤال بشأن الإقلاع عن وسائل التواصل الاجتماعي. وعند سؤالهم عما إذا كان “الصحافيون يتحملون مسؤولية الحفاظ على خصوصية آرائهم، حتى على وسائل التواصل الاجتماعي الشخصية الخاصة بهم”، وافق غالبية الذين شملهم الاستطلاع. وعبر ما يقارب من نصف المشاركين في الاستطلاع عن تزايد ثقتهم بالصحافيين عندما يحافظون على خصوصية آرائهم السياسية والاجتماعية.

مع ذلك لا يمكن أن نتقبل فكرة مجردة عن صحافيين لا يغردون في عالم مهووس بتويتر بوصفه تعريفا لما يحدث الآن!