هكذا تتفاعل الثقافات الأفريقية

مصر تتجه اليوم إلى قلب عالمها الإفريقي لتسهم في إعادة إنشاء صورته الجديدة التي تُعطي الحب إلى جانب المعرفة، والصداقة إلى جانب المنفعة.
موقف مصر لمساندة أفريقيا جدع أنفها وأوقعها في مؤامرة دولية لمنعها من ممارسة دورها الأساسي في قارتها
جدل العلاقة بين الثقافات الأفريقية والثقافة العربية من لغة البجا إلى فن الدوبيت

أن تصل متأخرًا خير من ألا تصل. أقول هذا بمناسبة اهتمام المجلس الأعلى للثقافة في مصر بالانفتاح على الدائرة الأساسية التي ننتمي إليها جغرافيًا وحضاريًا وواقعًا ومستقبلًا.
 فبعد أن كان اهتمام المثقف المصري يتوجه دائمًا إلى الشمال ليعوض ما فاته من تطور معرفي، وتأصيل ثقافي، وكان الشمال في القرنين الماضيين هو البوصلة التي توجه إليها المصريون الرواد بدءًا من رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك وأحمد لطفي السيد وطه حسين وقاسم أمين ومن سواهم إلى آخر هذه السلسلة الرائدة في إعادة صياغة الوجدان المصري؛ تتجه مصر اليوم إلى قلب عالمها الإفريقي لتسهم في إعادة إنشاء صورته الجديدة التي تُعطي الحب إلى جانب المعرفة، والصداقة إلى جانب المنفعة، والعمل المشترك إلى جانب النهضة الخاصة بكل بقعة في هذه القارة السمراء.
ولم يكن هذا الأمر جديدًا على مصر؛ فقد أن كان لمصر دورها التاريخي في إنهاض القارة الإفريقية من ظلام التخلف والجهل، وفي تحرير أفريقيا من العبودية الاستعمارية في منتصف القرن العشرين؛ حيث كان لأفريقيا موضع في القاهرة لكل زعيم أو ثائر أو باحث عن كرامة وطنه وحريته. في تلك الفترة كانت الأسماء الأفريقية مألوفة في الحياة اليومية للمصريين، وكان القادة الأفريقيون يتواتر وصولهم إلى القاهرة، فكنا نرى "قوامي نكروما" و"موديبو كيتا" و"جوليوس نيريري" و"نلسون مانديلا"، فضلًا عن أقدم حاكم أفريقي؛ وأقصد به الإمبراطور هيلا سيلاسي، يفدون إلى القاهرة إما لتقديم واجب الشكر على ما فعلته مصر في سبيل حرياتهم، أو لطلب الدعم المصري للدول التي لا تزال تئن من الاستعمار العسكري والاستعمار الإنساني فيما عرف بأنظمة التفرقة العنصرية Apartheid.
وإذا كان موقف مصر لمساندة أفريقيا قد جدع أنف مصر وأوقعها في مؤامرة دولية لمنعها من ممارسة دورها الأساسي في قارتها، فإن مصر استطاعت أن تلملم جراحها وأن تستعيد إرادتها، وأن تعود إلى ممارسة واجبها نحو أشقائها لبناء مستقبل يليق بما يختبئ في باطن الأرض الأفريقية من كنوز وهبها الله لها، واستباحها مستغلوها من المستعمرين.
كان الملتقى الدولي الرابع لتفاعل الثقافات الإفريقة هو المائدة التي اجتمع حولها أهل العقل وأهل الرأي وأصحاب الثقافة وأصحاب المواقف لتدارس أحوال هذه القارة وتدبر أساليب الخروج بأفضل وأعظم النتائج لبناء أفريقيا المستقبل، ولذلك اجتهد المشاركون في هذا الملتقى لتقديم أوراق بحثية متنوعة في موضوعاتها ومضامينها، مشتركة في نبل غايتها وأهدافها.
ومن هذه الأوراق البحثية أستطيع أن أرى كيف يتحرك وجدان الأفريقي ليعيد تأصيل صورته الجديدة التي يطمح إلى تحقيقها في المستقبل، ويجب ألا ننسى أن أكبر المشروعات يبدأ بخطوة، فلا يليق أن نقلل مما حدث لأنه لم يحقق كل ما نتمناه لأفريقيا، بل على العكس، علينا أن نثمن ما حدث لأنه الخطوة الأولى الصائبة في طريق وعر طويل لا نصل إليه إلا بإرادة صارمة لا لين فيها.

الباحث أحمد سعيد عزت، قدم ورقة عن "آلية الحماية القانونية للتراث الثقافي غير المادي"، وهي دراسة يقارن من خلالها بين بعض تشريعات الدول الأفريقية، فيما تكتب إلهام عبدالحليم مبروك عن الملكية الفكرية لمؤلفي الكتب الإلكترونية في عصر الثورة الرقمية في مصر والمغرب، ويتوقف أسامة عبدالتواب أمام أوجه التعاون الثقافي بين مصر وغانا من عام 1957 إلى عام 1966، ويعرف دراسته بقوله "إنها دراسة للتحرك الثقافي المصري في غرب أفريقيا"، أما وضع المرأة الكينية في مواجهة سياسات الاحتلال البريطاني فيما بين عامي 1922 و1963 فترصده إيمان رجب، ويبحث بدوي رياض وضعية المرأة الأفريقية تحت الحكم العنصري في جنوب أفريقيا فيما بين عامي 1950 و1994، ويتناول تامر أبوالخير الثورة الرقمية وتأثيرها في حفظ التراث الثقافي الأفريقي، أما جاستون بيللي فقد اختار موضوعًا يتعلق بالذكر عبر بحث لفهم جذور الرقص الديني في جنوب السودان، وتوقف حاتم الأنصاري في بحثه عند تجليات ثيمة الانتحار في الرواية الإفريقية، عبر قراءة تأملية في نماذج من أدب جنوب الصحراء، أما حاتم محمد المسلمي فقدم دراسة مقارنة عن اللغات الأوروبية في أفريقيا وأثرها في تسيد الاستعمار الثقافي، وتساءلت حفيظة مخنفر في بحثها "الهوية الثقافية والخوف من الآخر" هل توجد هويات متعددة بالجزائر؟
فيما تابع حمدي عبدالرحمن خط الصعود الأفريقي في السياسة الدولية من خلال عدد من الإشكاليات التحليلية والمعرفية، وكتبت راشيل ديانجا عن "سينما المرأة والساحة الثقافية المتغيرة في شرق أفريقيا"، وقدمت سعيدة عزيزي بحثًا عن طقوس العبور الإفريقية، بينما كان بحث شريفة فاضل عن "الهوية الثقافية وتأثيرها في العلاقات الصينية الإفريقة"، وكتبت الشيماء الصعيدي عن المرأة النوبية ودورها في الإبداع الثقافي، أما عثمان جو فكتب موضوعًا عن "ذاكرة شعوب سينغاميبيا ورواية (بر وجو) للهجرات الوافدة من مصر إلى غرب أفريقيا"، واهتمت فاطمة غندور بالكتابة عن التمييز الإيجابي للمرأة في الحكايات الشعبية بجنوب ليبيا. 
وكتب مادا ليتسو زليلو عن "إيديولوجيا الإبادة العرقية المعرفية وموتها"، وتوجه بحث مجدّة إمام نحو وضع خريطة ثقافية للاجئين الأفارقة، لبيان المشكلات الثقافية وسبل مواجهتها، وأسهم محمد فؤاد رشوان ببحث عن الأبعاد الاجتماعية للنزاعات حول الأنهار الدولية في أفريقيا، وتناول مسعود شومان في بحثه جدل العلاقة بين الثقافات الأفريقية والثقافة العربية من لغة البجا إلى فن الدوبيت، وكتبت هايدي عليوة عن تمكين المرأة الأفريقية في إطار أجندة 2063، وكتبت ولاء البوساطي عن "الدياسبورا الأفريقية في الصين - مدينتا ييو وجوانجزو"، إلى آخر هذه الموضوعات التي نوقشت خلال هذا الملتقى الدولي الذي أتاح لنفسه أن يعيد البحث في هموم أفريقيا وتأثير ماضيها في مستقبلها، وهو أمر تحتاجه أفريقيا ويحتاجه الأفريقيون لينتهوا إلى رؤية  تناسبهم لصناعة مستقبلهم وإدارته بالطريقة التي يرون أنها جديرة بأن تتخذ أفريقيا؛ القارة والإنسان مكانهما اللائق على الأرض.