وضاح السيد يكشف أسرار نصه البصري
ما إن تخرج وضاح السيد (1969) من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1990 حتى كان التجريب همه، والبحث عن المختلف واللامألوف شغله الشاغل، يرسم اللانهايات، وقبل بدء اللوحة هناك ما يؤرقه، فالفن بالنسبة له مسؤولية أولاً، وصياغات جديدة لم تعتد العين على رؤيتها ثانياً، ولهذا تدهش حين تلمس النظرة العمل الفني من أول وهلة، فلا تحديد ثابت للوحة، لا لحالاتها ولا لتكويناتها، فهو يعيد إنتاج القصيدة باللون حيناً حتى أنه قدم معرضاً كاملاً تحت عنوان "بعيون نزار" إستلهمه السيد من قصائد نزار قباني كحالة توأمة بين الرسم والخط، بين اللون والقصيدة، وحيناً يستوحي أعماله من أغان باتت كنزاً لذاكرة لا يمكن أن تموت، فكانت لوحاته " هذه ليلتي " و"وحدن" و"يا لور" مستوحاة من أغان لأم كلثوم ولفيروز تحمل الأسماء ذاتها، وحيناً آخر يشتغل على خامة اللباد بدلاً من قماش الكانفال ليكون السباق في ذلك،.
ورغم مغامرته هذه ورضاه عن تجربته هذه إلا أنها لم تلق الإستحسان المطلوب لا من النقاد والمهتمين ولا من المتلقين، وهذا لم يهد من تفاعله المبدع مع طموحه في كسر النهايات وعدم ربطها تماماً بالبدايات، فهو يتماهى بإستمرار مع ما يؤكد إنبعاث اللامألوف في تجربته، ورغم أنها تشكل حافزاً مؤثراً يتفق مع مبادئ التفاعل والتكامل لديه، وأنه يتقن نسج أنموذجه وإظهاره بالشكل الذي يريده هو، فعمله يفعِّل المؤثرات البصرية منها والنفسية، ويضعها في مواجهة النظام التقليدي للعمل الفني ويستخدمه في مواجهة الروتين فيه، وبالنتيجة هو أن حسام السيد يشم رائحة اللامألوف في الأشياء فيخرجها بنور بصيرته، وبزخم تدرجات لونه يلغي المنظور علّ ذلك يقوده إلى البحث في إضاءة اللون ذاته أو في الطاقة المشعة منها.
فهو هنا يكتسب هوية جديدة بعيداً عن السقوط الفني الكبير في أكثر شتات الأرض، بتقنيات عالية، وبعنفوان وحيوية، وبتعبيرية جديدة يرمي الزمن بعيداً ليجد طريقه في متون الأسئلة الملتفة على عنقه، أو في الأجوبة المستعصية والتائهة منها وما تبقى منهما، فهاجسه البحث في اللابدايات التي تفضي إلى صيرورة اللانهايات، والإبحار في رؤية الآخر علها تبقى مختلفة، وهنا تكمن تجليات قدرته على الإنتقال من المراجعة إلى الإقتراب من دوافعه الكامنة في تهميش طقسه وتلك الأسباب التي ستنتج مقولته وأبعادها مع رغبته في توسيع محطاتها وتحويلها إلى أسئلة جديدة، وفي سياق الإجابة عليها والبحث فيها يغوص السيد في إنتاج المعرفة البصرية في إطار ثقافي تتغير تبعاً للمعايير والوقائع، وتبعاً للتآلف أو للتناقض، أو للتقارب أو التباعد بين عوامل تصوراته وصياغاته حتى يكشف عن أسرار نصه البصري في مناخ مفتوح وحرية في البحث وفي منتهى الأهمية، وبعمق يلامس قدراته وقدرات المتلقي معاً، وهنا يعقد السيد موازنات ثلاثية الأضلاع، موازنات بأبجدية لاتترجم بل يحقق نوعاً من التناغم بين رؤيته الذاتية وما يذهب إليه وبين اللوحة وما تسرده من حقول وأسفار، وبين المتلقي وما ينتظره أو ما سيذهب إليه من حركات وملامح وحكايات، فهو يرغب في خلق حوار مفتوح بين الأضلاع الثلاثة لتمارس معاً طقوس الحياة واليباس، طقوس قد يدفعه إلى وضع ريشته تماماً على ما هو مطلوب للإقتراب من اللانهاية ضمن البحث الدؤوب عن الذي سيترك التوازن قائماً في هذا العالم الصعب .
وضاح السيد متفهم لمدى قدراته وإمتلاكها لوسائل تعبير غير تقليدية قد تلبي إحتياجاته الإبداعية، وهو مطلع وواع بأكثر التجارب المطروحة في العالم التشكيلي، ولهذا فهو لا يقف أمام العمل الفني كنتاج قد يقوده إلى حلم ما، بل يسافر فيها ومعها إلى أبعد من ضوء وسماء، فتتهافت عليه الدروب والهواجس المبدعة، ليطرحها بصورة واعية على شكل تجربة تلامس بحميمية وعمق هدف العمل المبدع ووهجه، تجربة فيها الكثير من كسر القوالب والجدران الباردة التي كانت تحتضن ذلك العمل، فتحت بند تحرير اللوحة من الجدار حسب قوله، يكسر تلك الجدران ويطلق سراح اللوحة يدعها تدخل في حالة تزاوج مع فنون أخرى كالموسيقا والشعر والغناء فكانت تجربته الأخيرة بفصولها الكثيرة، تجربته في إطلاق ما سماه هو "الأغنية التشكيلية"، محلقاً بذلك في فضاءات جديدة بإنفعالات جديدة، بحركات جديدة قد تفتح له أبواب أخرى لتجارب جديدة .