وهم الذاكرة في "صانعة الأحلام"

مجموعة صبا مطر القصصية أنيقة في لغتها، وعميقة في معانيها، تحاول البحث عن الجمال الكامن في جوهر الحياة. 
قصص المجموعة تطرح مسألة الهوية بالنسبة للأجيال المتعاقبة
إحدى شخصيات القصص تعيش في الحقائب، وفي متاهة قلق السفر المستحيل

من يستطيع أن يصنع أحلامه؟
لا شك أنها ليست بالمهمة الهيّنة، أن تحاول خياطة حلمك من خلال قلق الكتابة، لتتناسب وفاجعة الوطن وحجم عطش المغترب إليه. الوطن الذي غادرته الكاتبة صبا مطر ذات لحظة مشحونة بهواجس الخوف، وبقيت تفاصيله محفورةً في الذاكرة، وعلى الرغم من أنها تعيش في المهجر منذ فترة ليست بالقصيرة، والذي أتاح لها تحقيق ذاتها، ولكنها تبقى معلقة على أستار الوطن ونسيم شواطئه ووجوه أهله، لذلك تحاول أن تعيد إنتاج ملامحه من خلال حياكة الأحلام، وإعادة  صياغة عوالمه التي تغيرت وتلاشت، ولكنها بقيت محفورة في الذاكرة. وذلك في مجموعتها القصصية الجديدة "صانعة الأحلام"، والتي صدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع. 
والمجموعة تحتوي على سبع عشرة قصة قصيرة كُتبت في مهجرها الدنماركي، ومع ذلك فهي تتمحور حول الطفولة والوطن وبغداد والحرب والقسوة، وحتى وهي تنغمر في أجواء المهجر، حيث طفلتها تعزف الموسيقى في المدرسة، بينما هي تتوهج على صفيح ذاكرة الحرب، من خلال أحد المواطنين الدانماركيين الذي جلس غير بعيد عنها، وبيده كتاب عن حرب حدثت في تاريخ بلده الدنمارك. ومع  أنّها قررت التخلص من الماضي، لتعيش على أنغام الأوتار التي تداعبها يد ابنتها الصغيرة. لكنها دون أن تدري تراجعت إلى الماضي حيث الحرب التي طاردتها واقتلعت طفولتها وصباها. وكأنها تريد أن تعقد مقارنة بين هؤلاء الناس الذين لا يعرفون عن تاريخهم سوى الدروس المستخلصة من حرب مرت وكأنها جزء من حكاية طريفة. أما هي فحربها لا تزال تشع في دمها وتصهل في عروقها حتى هذه اللحظة. 
لقد طرحت في هذه القصة وغيرها مسألة الهوية بالنسبة لتعاقب الأجيال، ففي الوقت الذي تنتمي طفلتها الصغيرة إلى بلدان المهجر، لكنها تبقى معلقة ما بين وهم الماضي وواقعية الحاضر، ورغم أن عقلها يترسخ في هذا الحاضر الجميل في رقته وروح الألفة فيه، وإلغاء التمايز، وتكريس الفعل الإنساني ودفعه باتجاه الابتكار والخلق، ولكن عاطفتها تميل إلى الماضي المثخن بجراحاته، والأمل في إعادة بنائه على صعيد الحلم والتمني. 

الكاتبة تنتصر للأنوثة المقهورة والمتمثلة بحمدية، كما أظهرت فداحة القمع الذكوري للمرأة، واستعبادها وعدم الاكتراث لإنسانيتها

في قصتها الأولى "سجون الإرث" ترسم لنا ما تعانيه الأنثى في مجتمع مغلق، فثمة يدٌ تقسو وتجهض كل رغبة أو حلم أو عشق. إنه الإرث الذي يرافقنا في حياتنا، ويحولها إلى نوع من الرغبات المستحيلة، فالجدة التي تحرص على حياكة حياة الشابة الصغيرة وفق مقاسات تنتمي إلى زمن آخر، تساهم في تحنيط الماضي ومن ثمة تمجيده، وجعله بوصلة للوعي والسلوك. مما جعل الطفلة تتمرد على هذا الإرث الذي يحطم كل آمالها، فقد جعلت أبطالها يتمردون أيضا على كل صيغ العبودية، في طرق التعبير، وفي اختيار الأساليب التي تناسبهم، في عشقهم وحزنهم ورغباتهم. 
أحيانا تحاور البحر وتنبهر به، مأخوذة بنقائه وجماله، البحر يشكل لها الجسر بين عالمين. الأول يتمرغ في بؤسه وحروبه، والثاني هو الملاذ لمن فقدوا الأمل بأوطانهم، كانت تستخدم لغة شفافة أشبه بالابتهال وهي تهمس في البحر، وتودعه أسرارها وكأنها تريد أن تتعمد فيه من قسوة الماضي، حيث تقول:
 "اغمرني بعطائك وعمدني بمياه عينيك فأنا وأسراري ملحك وزوادتك الأبدية".
في قصص المجموعة تتجلى الذات الحائرة التي تبحث عن الوطن. فرغم المباهج المتاحة والرفاهية التي توفرها الأمكنة البديلة، ولكنها مجرد مسكنات للوجع الروحي، وللحنين. فالزمن يتحول إلى عقارب تلدغ الأحاسيس التي توقفَ الزمنُ على حافتها، ففي قصتها "لعبة الوقت" يتوقف الزمن وكأنه قد تحنط على حائط الحنين، أي إلى الزمن العراقي بكلّ ثقله وأحزانه. 
وفي قصتها "إعترافات" تجد نفسها تعيش في الحقائب، وفي متاهة قلق السفر المستحيل، حيث لا مكان سوى المكان الأول الذي تفوح منه رائحة الوجع، ورائحة اللحم البشري الذي تشويه حمم القنابل التي تستعر في كل مكان، في تلك المساحة بين نهرين أرهقهما الحزن، حيث تتراءى وجوه الأطفال الحائر والخائفة، والتي تبحث عن كسرة خبز  في القمامة. 
في قصتها "البرزخ" ثمة تماهي بينها وبين السمكة التي اصطادتها، فحينما تذهب لممارسة الصيد في البحيرة، ينتابها شيء من الصفاء الروحي في أجواء البحيرة، حيث زرقة الماء وارتجاف مويجاته. الصيد يوفر لها شيئا من الهدوء النفسي ونسيان الماضي الذي يتغلغل في كل خطواتها، الصنارة تتسلل بصمت في اليم والصمت، وتشعر بأن الخيط الرابط بينها وبين السمكة يتحرك بعنف. ولكنها بدلا أن تصطاد السمكة، فإن قوة غريبة قد سحبتها إلى أعماق البحيرة، والسمكة تسحبها نحو القاع، فترى رفات الصيادين وهياكل الضحايا المنتشرين بين الأعماق والطحلب البحري، لقد أصبحت ضحية لصيدها، ولكنها استيقظت من إغفاءة الحلم لتجد نفسها مرمية على الشاطئ، وجمع من الناس يحيطون بجسدها المبتل والذي يعاني نزعه الأخبر. 
لقد كانت هذه القصة من أنضج قصصها على صعيد الرمز وعلى صعيد التقنية القصصية، التي جعلت القارئ يتأرجح بين أخيلة واحتمالات شتى، في أسلوب قصصي جميل.
قصتها "صرخة" تعبر عن محنة الأنثى في مجتمع ذكوري مُغلق. 
حمدية، ابنة خطيب وإمام المسجد، وهي الوحيدة التي ولدت خرساء بين أخوانها الذكور. وقد اغتصبت من قبل أحد المصلين من أتباع أبيها وتلامذته، وقد حملت على أثر ذلك، وانتفخت بطنها مع مرور الوقت. وكانت تعاني من الخوف، وذلك لأن أباها وأتباعه سيقومون برجمها بتهمة ارتكاب الرذيلة. كان صوتها المخنوق غير قادر على التعبير عن حجم معاناتها. وفي لحظة الطلق كانت تعاني من وجع الولادة والخوف والفضيحة. ولكنّ حرقة الألم ووجع المخاض والشعور بالظلم قد تحوّل إلى صرخة هائلة، أخرست الجميع الذين تواجدوا للفتك بها، لقد تجمدت ألسنتهم. فوقفت حاملةً وليدها لتتحدى الآخرين.
لقد عاد إليها صوتها الذي غيبته أغلال الهيمنة الذكورية، والتي تنتقص من الأنثى وتعتبرها كسلعة رثة لإشباع رغبات الرحل. لقد أدانت القصة العادات والتقاليد الموروثة. 
أما الآخرون فقد حولتهم القصة إلى كتل بشرية غير قادرة على النطق. ولا شك أنّ الكاتبة كانت تنتصر للأنوثة المقهورة والمتمثلة بحمدية، كما أظهرت فداحة القمع الذكوري للمرأة، واستعبادها وعدم الاكتراث لإنسانيتها. 
"صانعة الأحلام" مجموعة قصصية أنيقة في لغتها، وعميقة في معانيها، تحاول البحث عن الجمال الكامن في جوهر الحياة.