يسري الجندي .. المسرحي الباحث عن الحرية في التراث الشعبي

محمد الحمامصي
راجية يوسف ترى أن الجندي تميز باتجاهاته نحو التراث الشعبي يستمد منه موضوعاته ليدخل بها ضمير أمة باستخدام أبطال السيرة الشعبية.
فكرة التراجيديا بشكلها اليوناني لم تكتمل عند الجندي
تأثير التراث الشعبي كان قويًا على الكاتب

الكاتب يسري الجندي واحد من أهم  كتاب المسرح المصري المعاصر، حيث يمثل مع زملائه من كتاب الستينيات والسبعينيات نهضة تميز في تأريخ المسرح المصري. وفي دراستها "التراث الشعبي وأثره على مسرح يسري الجندي" رأت الباحثة د. راجية يوسف أن الجندي تميز باتجاهاته نحو التراث الشعبي يستمد منه موضوعاته ليدخل بها ضمير أمة باستخدام أبطال السيرة الشعبية "علي الزيبق، وعنترة، والهلالية" محاولاً تقديم نوعًا من التراجيديا العربية من خلال شخوص السيرة، ولم يتوقف عندها، وإنما تجاوزها ليدخل عالم ألف ليلة وليلة، فيقدم مسرحية الاسكافي ملكًا، وكان تأثير التراث الشعبي قويًا عليه حتى أن فكرة التراجيديا بشكلها اليوناني لم تكتمل عنده، إذ أن البناء الحكائي للقص الشعبي أثر عليه، كما أثر على معظم كتاب المسرح فتحولت التراجيديا إلى حكاية فمسرحية تأُثرت بعنصرين مهمين، أحدهما داخلي من تراث الفرجة الشعبية العربية مثل خيال الظل، والأراجوز، والمحبظين، والسامر، والثاني محاولًا إدخال التأُثير العربي على النص المسرحي بالأخذ من المسرح الملحمي المرتبط بريخت.
تتناول هذه الدراسة المسرحيات التي قدمت على المسرح والتي اعتمد فيها الجندي على التراث الشعبي وهي: الهلالية ـ علي الزيبق ـ عنترة ـ الاسكافي ملكًا، فضلًا عن المسرحيات المقتبسة من المسرح الملحمي وتم تمصيرها مثل: حكاية جحا والواد قلة ـ بغل البلدية. 

الحرية هي التيمة الأساسية التي يبني عليها الكاتب كل أعماله، وهي تأتي على ألسنة أبطال مسرحياته سواء بإثبات الحرية أو بالبحث عنها

ولفتت الباحثة إلى أن الجندي له رؤية في الكتابة المعاصرة يستلهم فيها فكره من التراث الشعبي، كما أنه يقوم بتوظيفه ومزجه بالمسرح السياسي، لأنه يلقي الضوء على مشاكل المجتمع، مثل الفقر، والجهل، وفساد الخلق...إلخ، والتي يعود أصولها للضعف السياسي سواء كان ظلم حاكم أو مستعمر مستبد أو سطوة أصحاب رؤوس الأموال أو غير ذلك، محاولًا معالجة هذه المشاكل بحيث يجعل أبطال أعماله شخصيات شعبية مستقاة من التراث الشعبي أمثال أبو زيد الهلالي وعلي الزيبق وعنترة لإيقاذ الشعب الغافل، ويوجه رسالة له لكي لا يستسلم للظلم والعبودية.
كشفت الدراسة عن الدور الذي لعبه التراث الشعبي في بيئة مسرح الجندي والوقوف على العناصر الأساسية الشعبية المؤثرة عليه، والتي استقاها من التراث الشعبي في النص مستلهمًا فنون الفرجة "سير شعبية، خيال الظل، أراجوز، صندوق الدنيا، حكايات شعبية". كذلك سلطت الضوء على تطور الإخراج وتوضيح الإضافات الإخراجية في العرض والتي أثرت في النص وجعلته أكثر عمقًا.
وقالت الباحثة إن الجندي من أهم الكتاب المعاصرين استلهامًا للتراث الشعبي ومن خلال الوظيفة التي أراد أن يطرحها علي القارئ أو المشاهد نعرف أنه يمكن أن يصبح المسرح وسيلة لتصحيح المفاهيم والتصدي للظلم... إلخ، أي أنه استطاع أن يُحيي التراث باستلهام السير الشعبية من أجل طرح قضايا معاصرة متمسكًا بذلك التراث من أجل إبراز الهوية العربية والإسقاط على الواقع عن طريق أحداث مشابهة داخل السير الشعبية، كما استعان بالمسرح الغربي الملحمي البريختي بما يتناسب مع نصوص المسرحية العربية.

التراث الشعبي
رؤية في الكتابة المعاصرة

ورأت أن يسري الجندي سار على ثلاثة اتجاهات في التعامل مع التراث أو استلهامه، أولها: استخدامه الحرفي للتراث فتصبح مجرد مسرحية بلا تعديل، أو مجرد مسرحية للنص التراثي. والثاني المزاوجة بين النص التراثي مع تعديلات طفيفة لإسقاط واقع حاضر على واقع التراث بقصد نقد حاضره دون الصدام مع الرقابة. ثالثا تطويع التراث للحاضر مع نظر للمستقبل، وذلك بالاختلاف مع التراث بهدف إعادة قراءته، أي إعادة خلقه وبنائه من جديد. وقد طوع وأعاد صياغة السير الشعبية بطريقة جديدة، بحيث يجعل ما في السيرة من أحداث مشابهة للواقع تثير المتفرج أو المشاهد، لكي يأخذ منها عبرة أو يتعلم درسًا قد وقع سلبًا على بطل السيرة أو قدم نصيحة للقارئ بشكل غير مباشر لكي يفيق من غفلته فيرفض الظلم والاستعمار، ولا يقبل التضحية بوطنه وآدميته، لعله بهذا يوقظ روح المقاومة لدى الشعب أو الجمهور ليقاوم من أجل الحرية وتحقيق العدالة.
ورصدت الباحثة تأثير المسرح البريختي على الجندي، ورأت أن التأثير جاء في فترتين مهمتين: إحداهما فترة الاهتزاز العنيف في المجتمع المصري إبانة السبعينيات، والأخرى فترة البحث عن أداة فنية يستطيع بها إيصال مضمونه إلى الجموع، وفيها التقى مع المسرح الملحمي سواء في السبعينيات والثمانينيات.
وفي إطار تحليلها لمسرحيات الجندي المستلهمة من التراث الشعبي أشارت الباحثة إلى أنه لجأ للحكايات الشعبية التي تستمد مادتها من أرض الواقع، لكنها تسبح في الفانتازيا لتجسد أحلام البسطاء خارج إطار التاريخ المعاصر له، وصاغ نصه الدرامي بأسلوب ملحمي ليصبح أهم ملامح نص عالمه المسرحي على اعتبار أن ثمة قضية فكرية يطرحها وملخصه هو "أن الثورة الفردية مهما كان نبل صاحبها لا تخلص المجتمع من الفساد الساري في جنباته والحل هو الثورة الجماعية".

وأضافت أن الجندي قدم مسرحية "اغتصاب جليلة" - وهي مستلهمة من السير الشعبية – "علي الزيبق"، و"الأميرة ذات الهمة"، ليكشف عن إشكالية وضعت نفسها على التراث العربي وهي من يكتب التاريخ؟ أما مسرحية "علي الزيبق" فنجده تخطى كثيرًا من أحداث السير، وذلك من منطلق المراجعة الذي يعد من أهم خصائص المسرح الملحمي في تعامله مع التراث! فيبدأ مسرحيته بمشهد قتل حسن رأس الخول، على يد الكلبي، ويعد هذا المشهد من أهم مشاهد المسرحية إذ يجسد الصراع بين الخير والشر الممتد من عصر قابيل وهابيل حتى يومنا هذا. 
أما نصه "عنترة" فقد عمق شخصيته الدرامية وصاغ منها بطلاً تراجيديًا معاصرًا حتى بعد موت المفهوم التراجيدي بمعناه القديم بانسحاب الأقدار من ساحة الصراع مع البشر، فقدم لنا "عنترة" أو سيرة عبوديته ولونه الأسود في مجتمع قديم كان اللون في ذاته ـ فضلًا عن الأسر في حروب القبائل ـ يخلق وضعًا اجتماعيًا متدنيًا ويشكل لدى الشخصية المتمردة حلمًا في الانعتاق والتحرر والصعود الطبقي اعتمادًا على الذكاء وقوة الساعد. وكان هدف الجندي من المسرحية أن حل مشاكل الواقع لم يأت ليخلص فردًا فارسًا كان مثل حسن رأس الغول، أو ذكيًا مثل علي الزيبق، نجد أن خلاصه بالحيلة من عنت وظلم السلطة الحاكمة، فابتعث إلى الفارس الآخر عنترة، العبد الذي انتزع حريته بسيفه والعاشق الذي عشق ونال معشوقته رغم الصعاب بفروسيته، والشاعر الذي علق قصيدته الميمية بأستار الكعبة.
أوضحت الباحثة أن الجندي يبعث شخصية أخرى من عمق الأمل بوجود بطل عربي يقود المجتمع "أبو زيد الهلالي" الذي يخطئ هو الآخر فيقود قومه إلى التهلكة، بينما تبرز آخر شخصيات كاتبنا التراجيدية في مرحلته الأساسية وهي "رابعة" التي تعجز عن مواجهة شرور العالم، فتلجأ إلى التصوف. 

العدالة وحث الشعب على رفض الظلم
يدخل بها ضمير أمة باستخدام أبطال السيرة الشعبية

أيضًا يتجلى الفلسطيني المسفوح الدم، يجاهد للتخلص من ذلك الصهيوني في مسرحية الجندي الوثائقية "ماذا حدث لليهودي التائه؟" والتي تنزع الغلالة الأسطورية التي صنعتها العقلية اليهودية حول نفسها واستغلالها الصهيونية لسلب وطن بأكمله.
وأكدت الباحثة أن أغلب مسرحيات يسري الجندي وظيفتها أو هدفها أو التيمة المؤثرة فيها هي الحرية والعدل والرغبة في توحد وتماسك الوطن العربي الإسلامي أيًا كان عصر المسرحية "الهلالية، علي الزيبق، عنترة". وهذه الأهداف بداخل كل مواطن عربي مسلم، فعندما يشاهد الجمهور الهلالية مثلًا، فهي في عصر قديم، ولكن هدفها هو توحيد الأمة كي لا يتمكن منها أي عنصر دخيل وخارجي، وعندما أصبح كل شخص من أبطال المسرحية يبحث عن ذاته ومصلحته فقط ضاع الحلم العربي بالوحدة والتماسك، وهذا الحلم هو في عصر المسرحية ولا زلنا نحلم به في عصرنا الحالي، لذلك هي تحقق ما ينشده ويرجوه الشعب العربي أيًا كان مكانه وعصره.
ونجد الجندي في "عنترة" يناقش قضية الحرية وفي "الهلالي" يناقش الخلافات والصراعات علي السلطة، وفي "الزيبق" يناقش الظلم الواقع على الفقراء وبطش السلطة، وهكذا نجد أن القضية الواضحة عند الجندي هي البطل والمجموع، وكيف يسقط البطل إذا تخلى عن المجموع وتخلوا عنه.
وأشارت الباحثة إلى أن الجندي دائب البحث عن وسيلة يصل بها إلى الجمهور ومن ثم عرف بريخت، ومن أهم التيمات التي استخدمها الجندي في مؤلفته "العدالة" وبذل لها جهدًا كبيرة لا يخطئها قارئه أو متفرجه، كما أن القيم السياسية التي دار خلالها مسرحه اهتمت بقضية "الحرية" وحرية الجموع بشكل خاص، بل وتبلورت قضيته المحورية بين نقيضين: الفرد والنظام،  قضية من الفرد الأعزل في مواجهة نظام عنيف جبار نالت كثيرًا من اهتمامه، ويوضح يسري الجندي ولعه بالتراث حيث يقول: إن مستقبل أمته المصرية والعربية يؤرقه، فهو يحلم بمستقبل أفضل لها، يغني للحب، والحياة، والحرية، والعدالة، وهو المسرحي الشاعر والكاتب المنتمي الذي يبحث عن خلاص للفرد، والجماعة مؤمنًا بالإنسان وضرورة الديموقراطية حتى نستطيع أن نجد لأنفسنا مكانًا في عالم شديد التقلب والاضطراب والتغيير.
والتيمة الأساسية في الكتابات المسرحية للجندي هي الحرية، فالحرية هي التيمة الأساسية التي يبني عليها كل أعماله، وهي تأتي على ألسنة أبطال مسرحياته سواء بإثبات الحرية أو بالبحث عنها، فالفكرة الأساسية هي الحرية بما يندرج تحت هذه الكلمة من معاني حرية القول والفعل والتفكير، وأيضا هناك تيمة أخرى تظهر في مسرحياته هي العدالة وحث الشعب على رفض الظلم سواء من سيطرة حاكم أو مستعمر مستبد. فهو كاتب يرفض الاستعمار سواء كان استعمار أرض أو استعمار فكر، فهو يرفض السيطرة على الأفكار أو الأعمال الأدبية التي تحمل فكرة معينة بغرض نقد - بشكل مباشر أو غير مباشر - الأوضاع الخطأ الموجودة في المجتمع بهدف إصلاحها أو تصحيحها، ولقد استعان بالتراث الشعبي والسير الشعبية في مؤلفاته ليتخذ من موضعها تيمة تخص عصره.