الإنسان لا يزال يحبو على شاطئ المعرفة

عيسى بيومي يكشف من هامبورج: لا يزال ما يجهله الإنسان عن الأرض والحياة وعن نفسه ضخمًا ومعجزًا.
البشرية ستواجه التحدي وستنتصر، ولكن أي ثمن ستدفع؟
على قادة العالم تنحية خلافاتهم لإيجاد طريق يجنب البشرية التفتت والعزلة والتقهقر نحوعصور الظلام
أليست هذه العزلة فرصة نادرة لكل إنسان ليتأمل حياته ويبحث في ذاته؟
نعيش الآن لحظة المواجهة، لتأتي بعدها لحظة الإبداع بكل ما تحمله في رحمها 

تواجه البشرية في هذه اللحظات من حاضرها تحديًا غير مسبوق، ليس بسبب طبيعة كوفيد 19 كوباء فيروسي يصعب على العلماء حتى الآن السيطرة عليه واحتوائه، فقد واجهت البشرية من قبل عشرات من الأوبئة والكوارث. ولكن المشكلة تكمن في أن هذا التحدي لفيروس غير مسبوق، وهو يعود للإنسان نفسه. فلقد حوَّل التقدم التكنولوجي العالم إلى قرية صغيرة يصعب عزل أحيائها، أو فصل شوارعها عن بعضها البعض دون أن يصيبها الشلل والإنتكاس. 
وحتى لو استطعنا هذا الفصل، فما سيصيب العالم من ارتباك يصعب تصوره ربما تكون آثاره أكثر فزعًا، بسبب الترابط الصناعي والتجاري بين أجزائه، وتأثير ذلك على منظومة الطعام والدواء.
ولهذا يظن الروائي، المهندس المصري عيسى بيومي المقيم في هامبورج، أنه على قادة العالم تنحية خلافاتهم، ولو إلى حين، للبحث معًا عن طريق يجنب البشرية التفتت والعزلة والتقهقر إلى عصور التخلف والظلام، أو المحو والفناء؛ فالبشرية ستواجه هذا التحدي غير المسبوق، وستنتصر في النهاية، ولكن أي ثمن ستدفع؟ هذا هو السؤال.
دعني أسوق لك بعض الأرقام لأوضح فكرتي؛ فعمر كوكب الأرض ٤٫٥٤ بليون سنة، نشأت الحياة على هذا الكوكب منذ ٣٫٥ بليون سنة، وظهر الإنسان الأول منذ ٦ ملايين سنة، أما الإنسان الحديث فظهر منذ ٢٠٠ ألف سنة، وعمر الحضارة الإنسانية ٦ آلاف سنة، وثورة الإنسان العلمية بدأت بعالم الفلك كوبرنيكوس قبل ٦٠٠ عام فقط. 
ونحن حين نتأمل هذه الأرقام ندرك أنه على الرغم من التقدم العلمي الهائل الذي أحرزه الإنسان في المائة عام الأخيرة، وما تبع ذلك من تطبيقات تكنولوجية مذهلة، فلا يزال الإنسان يحبو على شاطئ المعرفة، ولا يزال ما يجهله عن الأرض والحياة وعن نفسه ضخمًا ومعجزًا. وهذا النصف كائن الذي يكتسح البشر بلا هوادة يشكل تحديًا وجوديًا للإنسان رغم شعوره بالزهو لاكتشافه أسرار المادة والحياة. 
ولا تزال أمام الإنسانية مسيرة قرون وحقب لتدعي أنها سيطرت على الكوكب الذي تعيش فيه، ولا تجد عنه بديلًا. 
وهذا التحدي ليس علميًا وتكنولوجيًا فحسب، بل أخلاقيًا واجتماعيًا أيضًا.
وعلينا أن نتواضع ونبث روح التعاون والمؤالفة، ولا نترك الغرور وضعف النفس يسيطران على ضمائرنا وأفعالنا، ولا سيما في هذه اللحظات الحرجة من تاريخنا.
ويضيف عيسى بيومي بأن مما لا شك فيه أن المحن تصهر معدن الإنسان، وتختبر عزيمته، وتمتحن فيه إرادة الأمل، وهي بالتأكيد مصدر إلهام للمبدعين. وربما كان الإبداع هو سر المعاناة. 

corona
نسعى بجد لدرء تلك الأضرار

ولننظر إلى ما أنتجه الفن والأدب من وحي أهوال الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح خمسة وسبعين مليونًا من البشر.
 نحن بالطبع لا ننتظر حربًا أو إعصارًا أو وباءً كي نبدع فنًا أو أدبًا، ولكنها معطيات الواقع التي تحرك في الكاتب موهبته وقريحته، وتغذي خياله وتشعل حماسه. 
فالكُتَّاب هم ضمير البشرية الذي لا تهزمه المحن، وهم صناع الأمل حين تشتد المآسي. لكننا لا يجب أن ننتظر في الغد قصة اليوم؛ فهي قد تأتي بعد غد. 
ولا ننسى كلمات كارل يونج، عالم النفس السويسري، حول علم النفس والأدب تلك التي تقول إن الجانب الخلاق للحياة يجد أوضح تعبير له في الفن الذي يستعصي على أية محاولة لصياغته عقليًا، فالعمل الإبداعي هو العكس تمامًا لمجرد رد الفعل، وهو سيظل يستعصي دائمًا على فهم الإنسان.
 فنحن نعيش الآن لحظة المواجهة، لتأتي بعدها لحظة الإبداع بكل ما تحمله في رحمها من صنوف الفن والأدب.
ويستحضر عيسى بيومي رواية "نرسيس وجولدموند" للأديب الألماني هيرمان هِسه التي نشرها عام ١٩٣٠، وتدور أحداثها في ألمانيا إبان العصور الوسطى، ويدور جانب من أحداثها في المنطقة التي اجتاحها "الطاعون الأسود"، وهي مفعمة بمعاناة الإنسان لفهم معنى وجوده، ومفهوم إرادته الحرة في تحديد مصيره الذي تفرضه الأقدار، والذي قد يكمن سره في الفنون والآداب.
كما تحضره رواية "الطاعون" للأديب الفرنسي البير كامي التي نشرها عام ١٩٤٧ وتحكي قصة وباء الطاعون الذي اجتاح مدينة وهران بالجزائر، فيطرح خلالها أسئلة تتعلق بالقدر في علاقته بالإنسان.
كما أن هناك رواية "الطريق" للكاتب الأميركي كورماك مكارثي التي نشرها عام ٢٠٠٦ وهي قصة خيالية تحكي رحلة أب وابنه في عالم دمرته كارثة غير معروف سببها.
ويشير عيسى بيومي إلى رواية تصدر، بعد أسبوعين، للكاتب الأميركي لورانس رايت بعنوان "نهاية أكتوبر" حول فيروس فتاك يبدأ انتشاره من آسيا قبل أن  يتحول إلى وباء عالمي؟! 
ويوضح ضيفنا أنه مثل معظم الناس استوعب حقيقة ما يدور في العالم من حوله، شيئًا فشيئًا حين عاد مع زوجته إلى ألمانيا يوم ٢١ يناير/كانون الثاني الماضي، بعد زيارة قصيرة لمصر، وكانت الحياة تمضي بشكل مألوف. بعض الأخبار عن فيروس كورونا ترد من الصين، ولا تشكل مصدرًا مباشرًا للقلق.
ولكن، الآن، وبعد مرور عشرة أسابيع اخترق الفيروس كل الحدود والفواصل في العالم أجمع!
 فلقد تخطى عدد المصابين المليون، وزاد عدد الوفيات على خمسين ألفًا، لم تعد تبدو الحياة مألوفة بأي حال؛ فلقد توقفت حركة البشر بين حدود الدول، وبين حدود المدن، بل وبين البيوت في المدينة أو القرية أو الشارع نفسه.
في ألمانيا ممنوع سير أكثر من اثنين معًا في الشارع مع حفظ مسافة لا تقل عن متر ونصف بينهما وبين أي عابر ثالث.
والخروج من البيت فقط لضرورة شراء طعام أو دواء أو لزيارة الطبيب، وبخاصة لمن يزيد عمرهم على الستين، وأنا منهم.
ولهذا أحضرنا والدة زوجتي، التي اقتربت من التاسعة والثمانين، لتقيم معنا، ولا نتركها بمفردها خلال هذه الفترة العصيبة.
ونحن نمضي الأيام في هدوء، نتعاون في أعباء الحياة اليومية، ثم ينشغل كل منا بعالمه؛ فأصعد لحجرتي لأتابع قراءاتي، ومشروع رواية بدأتها، وأتوقف لمتابعة الأخبار والتواصل مع الأهل والأصدقاء حتى يبزغ فجر يوم جديد.
ويرى عيسى بيومي أنه كما أن المحنة إذا ألمت بفرد اختبرت جَلَده وصبره، وكشفت له عن مواطن القوة ومكامن الضعف فيه، وقد تثبت إيمانه بالفضيلة والخير، أو تنحرف به إلى الأذى والشر، فكذلك الأمم والشعوب إذا امتحنتها أقدارها. 
والآن تمر الإنسانية جمعاء بمحنة هذا الوباء وتفعل المحنة فعلها؛ فتظهر من البشر خيرهم وشرهم. 
ومن الخير أن تقدم الدول يد العون لبعضها البعض، وتتكاتف المراكز البحثية في الدول المتنافسة لابتكار الدواء واللقاح. وهذا يحدث الآن، وأتمنى ألا يتوقف حين يشتد البلاء، فحينئذ، تثبت البشرية لنفسها مدى جدارتها بارتقاء سلم التطور بين الأحياء.
وعن دور التكنولوجيا في حياة البشرية اليوم يقول: هذا أمر معقد وله جوانب متعددة، وإذا شئت إجابة متوازنة، فيمكننا التساؤل إن كانت التكنولوجيا هي التي مهدت للفيروس هذا الانتشار السريع، ولم تحتجزه الحدود في مكان ظهوره كما حدث من قديم، قبل أن تتطور وسائل الإنتقال، وتربط أطراف الأرض بعضها ببعض، فتتحول إلى ما يشبه قرية صغيرة. 
الإكتشافات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية تطور معيشة البشر وتزيدهم فهما للكون والحياة، وفي الوقت ذاته يمكنها إفناء الخلائق، وتدمير الطبيعة، وإفساد بيئتها.

حوار كورونا
رد الفعل يتناسب في الطبيعة مع الفعل

نعود إذن ودائمًا إلى معادلة الخير والشر التي لا مفر منها ما بقي فينا وازع الضمير. وهذا ينطبق أيضاًعلى تكنولوجيا المعلومات، أي الإنترنت والسوشيال ميديا، والهواتف الذكية، وفيسبوك وغيرها من التطبيقات المعلوماتية. فيمكننا في عزلتنا أن نستعين بها لاستقاء المزيد من المعلومات، وتحديث ما نعرفه من أخبار.
 وطبعا للتواصل والتقارب الإجتماعي في ظل العزلة الإجبارية، ويمكن ايضًا تسخيرها للتضليل ونشر الأكاذيب والفضائح! 
أليست هذه العزلة فرصة نادرة لكل إنسان ليتأمل حياته ويبحث في ذاته؟
ويوضح المفكر عيسى بيومي أن العالم يتغير كل يوم، ولكن بشكل تراكمي غير متناسق، ومن شأن الأحداث الجسام - مثل الوباء الفيروسي الذي نتعرض له في اللحظة الحاضرة - أن تعجل من نسق التغيير، وقد تعكس اتجاهه. 
وهذا يعتمد على تداعيات ما سيكون وشراسته، لأن رد الفعل يتناسب في الطبيعة مع الفعل. 
هل هذه فرصة لتنتبه الإنسانية لنفسها وتصحح ما اختل من مسارها وتتعاون فيما بينها من أجل بقائها، أم هي فرصة للحمقى ليحولوا بينها وبين المسار الصحيح؟
 هل سننتبه للأضرار البيئية التي يسببها نمط حياتنا الحالي قبل أن تواجهنا كارثة أخرى لا يفيد فيها حظر تجول وانعزال في البيوت؟ 
ليس فقط ننتبه، ولكن نسعى بجد لدرء تلك الأضرار
وما يخشاه عيسى بيومي هو أن تندلع المزيد من الحروب، ويظن أي إنسان أنه بمنأى عن محصلة المجموع؟!
ثم .. يبقى الأمل  الذي هو أهم ما يجب أن نحرص عليه.