أحمد عبدالوهاب جذبته شخصية اختاتون فأبدع حولها

الفنان المصري الراحل لجأ لاختزال التفاصيل ليؤكد على فكرة القداسة والصوفية، واستخدم كل الخامات المتاحة.
تجربة غنية في ثرائها المفاهيمي والموضوعي والتقني
الفنان يحلق في فضاء الإبداع الهادئ؛ ليضمن لنا متعة الفكر والرؤية

لا يشعر الإنسان بقيمة ما عنده إلا عند فقده! وماذا لو كان الفقيد أستاذاً له من  الفضل الكثير؟ يقول محمود درويش: "الرثاءُ، مديحٌ تأخر عن موعده حياةً كاملة "فلا تؤخر المدح ليصبح رثاءً، ولا تتوانى عن تقدير كل ذي قدرٍ".
أحياناً لا أجيد التعبير عما يدور داخلي من مشاعر، وأكتفي بالذكريات، والدعاء  للفقيد بالرحمة والمغفرة. بهذه المشاعر استقبلت خبر رحيل أستاذي الفنان د. أحمد عبدالوهاب الأستاذ الجليل، وعزاؤنا أنه ترك تلاميذ يسيرون على دربه ويدعون له  وأعمال تتميز بالصدق والموضوعية. 
رحل أحد رواد الفن المصري المعاصر، الذي كرّس حياته الفنية للبحث عن شخصية معاصرة للفن المصري؛ فاجتذبته شخصية أخناتون بملامحها الهادئة الواثقة، وعالجها في صياغات متعددة، ولجأ لاختزال التفاصيل ليؤكد على فكرة القداسة والصوفية، واستخدم الفنان في ذلك كل الخامات المتاحة. 

fine arts
سحر الأجواء المصرية القديمة 

يعد أحمد عبدالوهاب أحد رموز الحركة التشكيلية المصرية، تنتمي أعماله لمدرسة الرواد، أعماله التي تستشف من شخصيته المتصوفة المنحازة إلى الاختزال والتأمل ، هذا الأسلوب المتفرد جعل من مدرسته قبلة جذبت إليها مريدي الإبداع. لم يكتف أحمد عبدالوهاب بالنحت، فله إنتاج في الرسم والتصوير، وعبر بفهم ووعي لواقع حياتي خاص، وطبقات عميقة وتاريخية من الثقافات والتجارب الإنسانية، مسار سلكه الفنان القدير ولم يحد عنه، وهب له حياته، وموهبته، وعلمه. 
نحن أمام تجربة غنية في ثرائها المفاهيمي والموضوعي والتقني، ثراء متفرد في رؤى التناول والتعبير قيمة فنية لا يجود بها الزمان كثيرًا. يحلق في فضاء الإبداع الهادئ؛  ليضمن لنا متعة الفكر والرؤية. 
الفنان أحمد عبدالوهاب كان يهدف لنشر ثقافة معاصرة، ونقل الخبرات العالمية للدارسين بالكليات الفنية، وكان من العلامات الفنية المضيئة في مصر والعالم، تميزت أعماله بأسلوب واتجاه خاص نتاج دراسته للفن المصري القديم، وإعادة صياغته في أعمال فنية معاصرة رحلة طويلة قطعها في فنون التشكيل، مستلهما التراث الشعبي والمصري القديم، متخذاً من بساطته ورموزه الخصبة فلسفة لأعماله المتنوعة التي يصيغها بلمسته الخاصة، لتخرج كل قطعة متفردة. 
في مدينة "طنطا"، حيث مولده ١٩٣٢ وطفولته، عايش الفنان الفنون المصرية في الموالد الشعبية، فتركت تأثيرات لا تزال  في أعماله. 
وعن بداياته الفنية يقول: قصتي مع  النحت بدأت مبكراً، حيث نشأت في مدينة طنطا، وكان هناك متحف صغير للفن المصري، يضم بعض الأعمال النحتية البسيطة التي كانت تجذبني كثيراً، واكتشفت موهبتي حينما وجدت قطعة من الحجر الجيري، وبدأت أنحتها، وكنت وأصدقائي ننحت ونرسم ونأخذ آراء بعضنا البعض فيما نصنع، فاتجهت للدراسة في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وغيرت تخصصي من الرسم والتصوير إلى النحت.
بعد استكمال الدراسة ذهبت في منحة للطلبة المتفوقين سنتين في مراسم الأقصر، حيث تذوقت الأجواء المصرية القديمة بما فيها من سحر، هناك حس ونبض في كل هذه الآثار بنقوشها وأشكالها وعلاقتها ببيئتها، ليس له مثيل في االعالم، وتأملي فيها جعلني أتعرف على منبع إلهام أجدادنا. بحثت في قرى الجنوب، واستفدت من زيارتي لنجع حمادي، وقرية القرنة، وعرفت كيف تكون العمارة والفنون المصرية، وأتساءل كيف استفاد المعماري حسن فتحي من البيئة المصرية، فمقابر صوامع نجع حمادي لا يوجد مثلها في العالم، كان يجب أن توضع في متحف، كذلك «المنامة» التي كانوا يصنعونها من الطين المحروق ويضعون فيها الأطفال، لحمايتهم من العقارب.

كل بيئة لها طابعها المميز، فالأرض والجو والنيل أعطوا لنا شكلاً فنياً ومعمارياً متميزاً . وعرفت أن المصري منذ القدم عنده جينات لا يمكن أن يكون غير نفسه، أرى أن تراثنا مليئ بالقيم، والسحر والغموض. وكل الرموز الشعبية لها أبعاد روحية تضفي على الأعمال عاطفة وخيالاً، وقد تعلقت بالأعمال الفخارية وزخارفها، وربما تأثري بقصص البطولات الشعبية التي كنا نسمعها في الصغر، خلق لدي نبعا خصباً أجده لا ينضب ويخرج ليتشكل على أي خامة.
ولد الراحل في 27 يونيو/ حزيران عام 1932 بمدينة طنطا بوسط دلتا مصر، وانتقل إلي الرفيق الأعلى يوم ٢٢ مارس/آذار ٢٠٢١ وعمل رئيساً لقسم التشغيل بالشركة العامة لمنتجات الخزف والصيني 1959، أستاذاً ورئيساً لقسم النحت بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية من عام 1979 ـ 1988، وكيلاً لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1990 ـ 1992. حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفن عام ٢٠٠٢، عضو لجان تحكيم جوائز الدولة التشجيعية، وأشرف على عدد كبير من رسائل الدكتوراه والماجستير، وألقى محاضرات عن الفن المصري والحركات الفنية العربية والدولية في مصر والخارج.