صرخات الاحتجاج والعشق في 'نساء هيبو.. وليال عشر'
تونس - يعدّ تيار "الرواية الجديدة" أو "التجريبية" بتعدد ألوانه شكلا من أشكال التعبير عن حدة الأزمات التي يواجهها الإنسان اليوم وضرورة إعادة النظر في المسلمات وفي الواقع ورفض كل ما هو متداول ومألوف والتمرد على جماليات الوحدة والتناغم . وهو ما يلاحظه القارئ في عديد الروايات التي اختارت هذا التوجه في الكتابة ومنها رواية" نساء هيبو وليال عشر" للكاتبة حفيظة قارة بيبان (دار الأمينة للنشر والتوزيع، ط1، 2024 ) ولعل أهم ما يلفت النظر من مظاهر التجريب والتجديد المولدتين لجماليات هذه الرواية تعدد الأصوات وظاهرة الميتاقص. وهما استراتيجيتان كفيلتان بجعل القارئ في حالة استنفار وحيرة ترميان به في دوائر الشك، فإذا هو مدعو إلى تعديل أدوات القراءة لبناء تأويلات مختلفة .
تتجاوز الكاتبة في هذه الرواية الصوت الأحادي للراوي لتتعدد فيها الأصوات فتتناوب على السرد أربع شخصيات نسائية "نساء هيبو"، تصدح كل شخصية بوجهة نظرها ورؤيتها للعالم دون تدخل الراوي العليم . ترسم عالمها الداخلي وتبوح بأشجانها ومعاناتها تتلون معها أشكال البوح وصيغه في كل مرة بين السرد والحوار والحوار الباطني واليوميات والرسائل.. ويشترك البحر، شخصية تخييلية، مع نساء هيبو في تجميع أطراف الحكاية والتعليق على الأحداث أو حكيها. البحر هو الشخصية "الذكورية" الوحيدة التي تساهم في بناء هذا العالم التخييلي تنفتح بهديره الرواية وتنغلق على أصدائه .
وتعتبر الرواية المتعددة الأصوات لدى باختين مشروطة بتعدد وجهات النظر أو الرؤى الإيديولوجية وبتعدد الشخصيات والرواة، مما يجعلها متمتعة باستقلال نسبي وقادرة على التعبير عن عالمها الداخلي بحريّة . في ضوء هذا التصور للبوليفونية يمكن رصد ثلاث رؤى مختلفة للعالم في رواية نساء هيبو، قد لا تصل دائما حد التشكل الأيديولوجي لكنها تمثل تصورات ووجهات نظر متباينة : الاحتجاج على العالم ،الانفصال عن العالم، ذاكرة العالم.
أصوات الاحتجاج على العالم:
تبدو شخصية الأم مريم محورية في الرواية إذ تنهض بوظيفة الحكي عشر مرات في الليالي، هي الأم تنتظر ابنها الشاب لتحتفل بعيد ميلاده الثاني والعشرين لكنها تصدم ليلتها بحدث اعتقاله ..تتالى بعدها معاناة البحث عنه ومحاولة فهم أسباب الاعتقال وقد ارتبط بجريمة اغتيال أحد العلماء في تونس ..تستعيد مريم عبر الليالي شريط حياتها ،لحظات السعادة التي عاشتها مع ابنها، نجاحه الباهر، حصوله على جائزة المخترع الشاب، ولحظات القلق بسبب وضعه الاجتماعي القاسي وحاجته إلى المال .. غير أن الأم لا ترى في حدث القبض على ابنها نادر سوى أنه خطأ في التقدير والحكم جعله يتخبط بين أذرع أخطبوط رهيب في قطب مكافحة الإرهاب . تواجه الأم مريم الصدمة بمحاولة تفكيك الغموض و البحث في وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، بالبحث في أوراق الابن وبمراجعة تاريخ الاغتيالات . ينتهي بها إلى إعادة تقييم الواقع ومراجعة مفهوم ثورة عاشتها بكل جوارحها "ست سنوات مضت على ذلك الحلم الذي طار بنا إلى سماء الفرح .. أكان حلما؟ أم وهما هيّأه لنا اللصوص الكبار لتمزق بعده الأرض وتفرق الجموع وتوأد الأحلام؟"
لا يخلو صوت مريم من اتهامات لعديد الأطراف نظرا للخروقات التي عرفتها الحكومات في تونس بعد ثورة 2011 وقبلها، والاغتيالات التي شهدها العالم العربي لعدد من أهم علمائه ومنهم " مهندس الطيران التونسي ،العالم الذي تمكن من تطوير طائرات بدون طيار من نوع أب .." وهو العالم الذي قبض على نادر بسببه . بل نراها تسدد بوضوح سهام النقد للوطن وللمتنفذين فيه وتحملهم المسؤولية : "بلاد تدّعي مقاومة الإرهاب بينما هي تحضن الإرهاب وتفرّخ الدواعش ،لامبالية بأبنائها؟ لمَ تكون أنت الشهادة عن حلم الوطن المهدور؟ حلم تونس" ص167 .
تتعدد ضروب الاحتجاج لدى الأم رافضة الاستسلام عبر اللجوء إلى المحاماة ،و بمواصلة العمل في المدرسة رغم المعاناة والجراح . ويبدو صعود الأم الربوة مع الأطفال إلى المدرسة في نهاية الرواية تكثيفا رمزيا لمعنى الاحتجاج على العالم والمقاومة رغم كل العراقيل والمحبطات، و كوة أمل في نفق الواقع المظلم.
ولئن بدا صوت سناء المحامية متماثلا مع صوت مريم في الاحتجاج على العالم ورفض المظالم فإنه مع ذلك قد تميز ببراجماتية تجعل شخصيتها أقرب إلى الواقعية، تتدخل سناء خمس مرات، تروي الأحداث التي لا يمكن متابعتها إلا داخل فضاء المراكز الأمنية وقد اختارت مواجهة المظالم بسلاح القانون .. غير أن الإحساس بالعجز عن تغيير الواقع وعن فرض صوت العدالة سيدفعانها إلى تغيير قناعاتها ليتحوّل الموقف إلى احتجاج على "تكلس" القانون و اتهامه بالعجز عن صدّ الإرهاب المتفاقم واسترجاع حقوق المظلومين والمكلومين إذ " يؤخذ الضحايا في سلاسل الاعتقال إلى السجون وتوأد الطفولة في خراب الوطن" ص221 . ولئن بدا إلقاؤها روب المحاماة دليل ضعف وعجز واستسلام في بداية الرواية فإنه قد غدا في نهايتها ضربا آخر من الاحتجاج.. إذ أعلنت تحوّلها من ممارسة المحاماة إلى التدريس بالجامعة والمشاركة في برنامج إذاعي .. فقد يكون العلم ونشر الوعي السلاح الأهم لمواجهة انكسارات الواقع وهزائمه ،ومواجهة اغتيال العلم والعلماء ،تلتقي بذلك حركتها في رمزيتها مع حركة الأم وهي تصعد الربوة مع الأطفال نحو المدرسة.
ولئن بدا صوت الشباب ضعيفا نسبيا في الرواية إذ لم يكن مؤثرا في سير الأحداث، فإنه مع ذلك يلتقي مع صوت الأم ويؤكد بطريقة غير مباشرة رؤيتها للخيانات وللأرض المستباحة من الداخل والخارج ورفضها الاستكانة. يجلو صوت الشباب هذا المنحى الاحتجاجي عبر ما تبوح به دنيا حبيبة نادر وزميلته في معهد الهندسة ،إذ تنقل في رسالتها إلى نادر بيانات الطلبة المنددين بالجريمة وقد حمّلوا مسؤولية الاغتيال للكيان الصهيوني الذي سبق أن خطط لعمليات اغتيال سابقة لمناضلين فلسطينيين وعرب في تونس وخارجها.
صوت الانفصال عن العالم:
تشترك أحلام "ابنة مريم" مع الأم في سرد حدث الفقد وغياب الأخ نادر إثر اعتقاله ،لكن التبئير في تدخلاتها يركز على فاجعتها الخاصة وأوهامها وقد فجّرها ماض مشحون بالموت والخيانة وصدمات الواقع. "شباب يئس من البطالة والقهر وكذب الوعود"، خيانة الأب وموته في حادث مرور مع عشيقته الأمريكية، الإرهاب والدواعش يطل عليها من الأبواب ويسكن ذاكرتها ويسيج حاضرها، تهرب منه لتعيش انفصاما حادا لا تفلح معه الأدوية، ينتهي بها إلى قتل توأمها وهي تتخيل حمايتهما من هجمة الإرهابي .ليكون مآلها مستشفى الأمراض النفسية.
الفرار من الواقع موقف يصدح بقبح العالم واختلاله، لكنه يغدو نوعا من الانفصام مآله المستشفى والعزلة . فالهروب من خيبات الواقع عبر الأوهام قد لا يفضي إلا إلى ضرب من الجنون، بل إلى الإجرام في حق الإنسان والإنسانية (قتل الطفل/ التوأم ).
صوت البحر / ذاكرة العالم:
كان البحر وما زال ملهم الأساطير والخرافات وأحد مكونات العالم الروائي وعناصر البناء الفني في عديد الروايات العربية والعالمية . تتلون صورته ودلالاته، فهو حينا رمز للولادة والبعث وفضاء التحولات والصراع من أجل البقاء، وهو أخرى ملاذ الخائفين والهاربين من تعقيدات الحياة، أو ملهم الإنسان يستمد منه القدرة على الصراع والمواجهة ..
والبحر في رواية نساء هيبو ليس مجرد فضاء ملهم أو فضاء حاضن للمدينة البحرية هيبو بل شخصية تخييلية تكتسي صبغة فانتاستيكية حين تروي الأحداث وتعلق عليها. يردد هديره صرخات المدينة و أصوات الشخصيات. يتدخل خمس مرات في الرواية تحت عنوان هدير أو تحت عنوان آخر ناقلا رؤى الشخصيات من خلال أوراق يرميه بها "فتى غاضب من أعلى الجسر" أو بعرض محتوى " ورقة طائشة رمتها المؤلفة إليّ.. ربما مسودة"
كائن تخييلي ،يتجلى أحيانا في صورة العاشق يغازل المدينة "لا لن أتركك حبيبتي هيبو للطوفان"، أو المتعاطف مع صرخات المكلومين يتلقف أخبار اليائسين والمحتجين "أرهف سمعي وأخفت موجي وأنا أسمع همس مريم والليل غامر، تتلاشى الجدران والأسوار إذ تستنجد بي". و يتماهي أحيانا مع الكاتبة لينهض بالسرد وليغدو قناعها الفاضح إذ تعلن الساردة / المؤلفة في نهاية الفصل الأول مخاطبة البحر: "هكذا قررت أن أترك لك البداية وأن أبدأ الرواية بصوتك المائج الصاعد إلى السماء، ناثر الزبد ..ها أنا أكتب بصوتك من جديد روايتي للمرة ..الثالثة" ص14
تتعدد دلالات البحر في "نساء هيبو" . فهو ذاكرة التاريخ يروي البدايات ويمتد إلى الحاضر، وهو الكائن المحب المتعاطف مع المدينة لا يرسم سوى أحزانها . و قد يتبدّى خيطا ناظما لذاكرة الكتابة الروائية تتعانق فيه روايات الكاتبة الثلاث، تتكامل و تتصادى. إذ يحيل صوت البحر إلى بعض ما ورد في روايات سابقة للكاتبة وقد تنزلت أحداثها في المدينة نفسها (شخصيات شرود وأمير في رواية دروب الفرار وشخصية دجلة في رواية العراء ) ليجسد شكلا آخر من أشكال كسر المألوف والصور الثابتة في الكتابة الروائية.
على أن الدلالات المتنوعة للبحر قد تلتقي في كونه الصوت الذكوري الوحيد في الرواية . وقد يحيل بذلك على صورة الأب رمز الحماية والرعاية والمحبة، ذاك البديل للأب الغائب في أحداث الرواية ،وبديل الأب الخائن في ذاكرة أحلام . استعارة أخرى للوطن و لكتابة تتخفى وراء أقنعة التخييل لكنها لا تتنكر لذاتها "بنت البحر" في مرايا سرد نرجسي.
الميتاقص/ الكتابة ذاتية الانعكاس:
يعدّ الميتاقصّ ضربا من ضروب التعالقات النصّية يحاور فيها النص نصوصا سابقة أو يعمد إلى صهرها لتشكل أحيانا نوعا من التناص الداخلي . وهي ظاهرة بارزة في روايات ما بعد الحداثة يتقاطع فيها النص التخييلي مع الرؤى النقدية وتتشكل عبرها رؤية الكاتب .
هذه الظاهرة نلمسها بوضوح في رواية "نساء هيبو.." حيث تغدو الكتابة ذاتية الانعكاس، تنعطف فيها الكاتبة على نصها (نصوصها) تستدعي رواياتها السابقة سواء بذكر عنوانها أو أسماء شخصياتها وعقد علاقات جديدة بين السابق واللاحق، في مراوغة تستنفر ذاكرة المتلقي إذ تدعوه إلى استحضار قراءات سابقة ،وفي الوقت ذاته تقدم تصورا جديدا لرواياتها إذ تترابط الحكاية فيها لتتشكل في ثلاثية. الحكاية في الروايات الثلاث تتواصل وتدور حول نفسها "اغتيال خليل الوزير أبو جهاد في رواية العراء / اغتيال العالم التونسي محمد الضاوي في نساء هيبو". و تلتحم مقاومة دجلة (العراء) مع ما تعلنه ابنتها سناء "نساء هيبو" من احتجاج على أورام الوطن، كما تتماثل بعض البدايات والنهايات "بداية شرود في دروب الفرار هي نهاية أحلام في نساء هيبو".تتعدد أشكال التعالقات النصية في نساء هيبو من تناص ونصيّة موازية في كتابة ذاتية الانعكاس أو في ما يسمه البعض بالسرد النرجسي (د. محمد حمد : الميتاقص في الرواية العربية، مرايا السرد النرجسي).
وبذلك يغدو الميتاقص استراتيجية سردية يتقاطع فيها التخييل مع الرؤية النقدية تتجسد عبرها رؤية الكاتبة للعالم، حيث تكون مواجهة الانكسارات وخراب الأوطان بالتسلح بكل أشكال المقاومة، بالكلمة والكتابة والمعرفة.
على سبيل الختام :
رغم العنوان الموحي برواية نسوية، فإن القارئ يواجه في "نساء هيبو" رهانات أخرى للكتابة تجعلها أقرب إلى رواية المقاومة في بعدها الإنساني العام لا النسوي . ورغم أن جل شخصيات الرواية، نسائية وذكورية ،موتورة ومسكونة بوجع سنوات من الخيبة، خيبة الوطن يعجز عن حماية شبابه وعلمائه فتنتحر أحلامهم ويغتال العدو نجاحاتهم، إلا أن الإيمان بضرورة المقاومة يبقى مدار الكتابة و نبض الرواية الحيّ.
وقد سعت الكاتبة عبر تعدد الأصوات وتنويعات الخطاب والانحرافات السردية إلى كسر نمطية السرد وصاغت رؤى مختلفة للعالم وأشكالا متباينة من الوعي تفاوتت قوة وبروزا. لعل أهمّها ما نسجته رمزية البحر و الأم مريم من دلالات تحيل على العطاء والمحبة ورفض الانحدار في هوة اليأس، على ضرورة إعادة بناء المستقبل باحتضان الطفولة، ولو باستعادة صورة سيزيف (الطفل/الإله) يحمل الصخرة، ليعيد بناء المدينة ويحمي الوطن من الطوفان الذي يهدده .